فلو أن للشكر شخصا يرى * إذا ما تأمله الناظر لمثلته لك حتى تراه * فتعلم أني امرؤ شاكر قال عمرو بن مسعدة: ثم قال لي هارون: ويحك، لما أبطأت حلفت بالمشي إلى الكعبة أن ينالك مني يوم سوء، ولا والله ما هذا جزاؤك لدي فما الرأي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت أعلى عينا، وأولى من بر يمينه. فقال: والله ما أريد ذلك. قلت: فليكفر أمير المؤمنين عن يمينه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر، وليأت الذي هو خير: فقال: ويحك: إن العلماء لم يروا الكفارة في هذا، وإنما تأولوا قوله عليه الصلاة والسلام في الإيمان بالله تعالى، وقد أجمعت على المشي، والمضي إلى الكعبة راجلا. فقلت: أنى لك بذلك؟ وكيف تصل راجلا؟ قال: لا بد من ذلك. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، فأمهل عامك هذا حتى أسهل لك طريقا، وأحدد لك مراحل، وأوقت لك مواقيت يسهل عليك ذلك إن شاء الله. قال: ذلك لك. فأمر عمرو بالأنهار فعرجت عن مسيلها، وبالآكام والجبال فسويت، وبالخنادق والأودية فردمت، حتى صار ما بينه وبين مكة كالراحة الموزونة، وصارت الأنهار والأودية تسايره على طريقه، ثم صنع له مراحل، قد حدد له عند كل مرحلة حدا، وابتنى في كل مرحلة دارا، وكانت المرحلة بريدا، قدرها اثنا عشر ميلا، ثم أمر بالمراحل ففرشت بالبسط الرهاوية (1)، ونصب له جدارا بالستور، وسمكها بأكسية الخز الرفيع الملون، وقد ضرب عند كل فرسخ قبة مزوقة، قد أقام فيها الفرش الممهدة، وقد أحاط بها الظلال الممدودة بالرواقات الكثيفة، فيها أنواع الطعام والشراب وألوان الفواكه: فلما تم صنعه ذلك: وأبرم أمره. قال: يا أمير المؤمنين، قد تم ما أردته، وكمل ما حاولته، فانهض على اسم الله العظيم، وكانت زبيدة زوجته التي أغرته عليه، وحملته على اليمين لمعاقبته، فخرج الرشيد ماشيا، ومعه دابته وزبيدة، فكانت المرحلة تفرش، والستور تنصب، والسمك ترفع، فيمشي ثلاثة أميال، ثم ينزل في قبة أمامها رواق (2)، فينال راحته، ويصيب ما اشتهى من لذة في مأكل ومشرب، ثم ينهض ثلاثة أخرى، فينزل على مثل ذلك، فإذا استكمل مشى أربعة فراسخ، نزل في قصر قد شيد له، ودار قد بنيت، فيها حمام طيب، ينال فيها راحته مع أهله، ويصيب لذته مما شاء وكيف شاء، ثم يكسر (3) فيه يوما، ثم يخرج
(١٦١)