مالك بن أنس وكان ذلك رحمة من الله لأهل المدينة، وتثبيتا لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.
مسير الرشيد إلى الفضل بن عياض قال: وذكروا أن الرشيد كان كثيرا ما يتلثم، فيحضر مجالس العلماء بالعراق وهو لا يعرف. وكان قد قسم الأيام والليالي على سبع ليالي: فليلة للوزراء، يذاكرهم أمور الناس، ويشاورهم في المهم منها، وليلة للكتاب يحمل عليهم الدواوين، ويحاسبهم عما لزم من أموال المسلمين، ويرتب لهم ما ظهر من صلاح أمور المسلمين، وليلة للقواد، وأمراء الأجناد يذاكرهم أمر الأمصار ويسألهم عن الأخبار، ويوقفهم على ما تبين له من صلاح الكور (1) وسد الثغور، وليلة للعلماء والفقهاء يذاكرهم العلم ويدارسهم الفقه، وكان من أعلمهم، وليلة للقراء والعباد يتصفح وجوههم، ويتعظ برؤيتهم، ويستمع لمواعظهم، ويرقق قلبه بكلامهم، وليلة لنسائه وأهله ولذاته، يتلذذ بدنياه، ويأنس بنسائه، وليلة يخلو فيها بنفسه، لا يعلم أحد قرب أو بعد ما يصنع، ولا يشك أحد أنه يخلو فيها بربه، يسأله خلاص نفسه، وفكاك رقه: فبينما هو يوما في مجلس محمد بن السماك، وقد قصد لرؤيته يسمع لموعظته، ولا يعلم أحد بمكانه، فسمع بعض أهل المجلس يذكر الفضل بن عياض، ويصف فضله وعبادته، وعلمه وروعه، فاشتهى النظر إليه، وتاقت نفسه إلى رؤيته ومحادثته، فتوجه من العراق إلى الحجاز قاصدا إليه، ومعه عبد الله بن المبارك فقيه أهل بغداد وعالمهم، وكان الفضل بن عياض يسكن الغيران. فلما قربا من موضعه قال عبد الله بن المبارك: يا أمير المؤمنين إن الفضل إن عرفك وعرف مكانك لم بأذن لك عليه، ويسفر عنك. فقال هارون: تستأذن أنت عليه، وتخفي مكاني عنه، حتى يأذن بالدخول فاستأذن عليه ابن المبارك. قال الفضل: من بالباب؟ قال. ابن المبارك. قال: مرحبا يا أخي وصاحبي، فقال ابن المبارك: ومن معي يدخل؟ فقال الفضل: ومن معك؟ قال: رجل من قريش. فقال الفضل: لا إذن، لا حاجة لي برؤية أحد من قريش. فقال له ابن المبارك:
إنه من العلم والعناية والفقه فيه بمكان، فقال له الفضل: أو ما علمت أن إبليس أفقه الناس؟
فقال له ابن المبارك: إنه سيد قريش في زمانه هذا وفوقهم، وإنما عنى أنه فوقهم في الدنيا وسيدهم فقال له الفضل: فإن كان كما تقول فليدخل، فدخل الرشيد فسلم عليه، ثم جلس بين يديه، فتحدثوا ساعة. فقال له أين المبارك: يا أبا الحسن، أتدري من هذا قال: لا أدري. فقال له: