مالك: فحمدت الله تعالى على كل حال، وصليت على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم نزهته عن الأمر بذلك، والرضا به. ثم قال: يا أبا عبد الله، لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني إخالك أمانا لهم من عذاب الله وسطوته، ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة، فإنهم ما علمت أسرع الناس إلى الفتن، وأضعفهم عنها، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وقد أمرت أن يؤتى بعدو الله من المدينة على قتب، وأمرت بضيق مجلسه، والمبالغة في امتهانه، ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه. فقلت له: عافى الله أمير المؤمنين، وأكرم مثواه، قد عفوت عنه، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم منك. قال أبو جعفر:
وأنت فعفى الله عنك ووصلك. قال مالك. ثم فاتحني فيمن مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس بالناس، ثم فاتحني في العلم والفقه، فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظا لما روى، واعيا لما سمع، ثم قال لي: يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودونه، ودون منه كتبا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله عنهم، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها، فقلت له: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر: يحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسياط، فتعجل بذلك وضعها، فسيأتيك محمد المهدي ابني العام القابل إن شاء الله إلى المدينة، ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله. قال مالك: فبينما نحن قعود إذ طلع بني له صغير من قبة، بظهر القبة التي كنا فيها. فلما نظر إلي الصبي فزع، ثم تقهقر فلم يتقدم. فقال له أبو جعفر: تقدم يا حبيبي، إنما هو أبو عبد الله فقيه أهل الحجاز، ثم التفت إلي فقال: يا أبا عبد الله، أتدري لم فزع الصبي ولم يتقدم؟ فقلت: لا. فقال:
والله استنكر قرب مجلسك مني إذ لم ير به أحدا غيرك قط، فلذلك قهقر. قال مالك: ثم أمر لي بألف دينار عينا ذهبا، وكسوة عظيمة، وأمر لابني بألف دينار، ثم استأذنته فأذن لي، فقمت فودعني ودعا لي، ثم مشيت منطلقا، فلحقني الخصي بالكسوة فوضعها على منكبي، وكذلك يفعلون بمن كسوه، وإن عظم قدره، فيخرج بالكسوة على الناس فيحملها، ثم يسلمها إلى غلامه، فلما وضع الخصي الكسوة على منكبي انحنيت عنها بمنكبي، كراهة احتمالها، وتبرؤا من ذلك، فناداه أبو جعفر: بلغها رحل أبي عبد الله.