يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قاله، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقوله (1)، وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى الفعل، فيعسر بعض العسر، ولذلك لما عاج (2) فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع وصعب ما سواه، وعندما يتكرر الوحي ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال، فعندما يعرج على المدارك البشرية يأتي على جميعها، وخصوصا الأوضح منها، وهو إدراك البصر، وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة، وهي أن الكلام جاء مجئ التمثيل لحالتي الوحي، فتمثلت الحالة الأولى بالدوي الذي هو المتعارف (3) غير كلام وإخبار، أن الفهم والوعي يتبعه عقب (4) انقضائه، فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع، ويمثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم، والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد.
واعلم أن في حالتي الوحي كلها على الجملة صعوبة وشدة، قد أشار إليها القرآن الكريم، قال تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) (5) وقالت عائشة رضي الله عنها: كان مما يعاني من التنزيل شدة، وقالت: كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا، ولذلك ما كان يحدث فيه تلك الحالة من الغيبة والغطط ما هو معروف.
وشبيه ذلك أن الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملائكية، وتلقي كلام النفس، فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها، وانسلاخها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر، وهذا معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في قوله: فغطني حتى بلغ من الجهد ثم أرسلني فقال: (اقرأ) (6).