المحسوسات لا يزدحم عليها في الوقت الواحد، ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال، وهو قوة تمثل الشئ المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط، وآلة هاتين القوتين في تصرفهما: البطن الأول من الدماغ مقدمه للأولى ومؤخره للثانية، ثم يرتقي الخيال إلى الوهمية والحافظة، فالوهمية لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات، كعداوة زيد، وصداقة عمرو، ورحمة الأب، وافتراس الذئب، والحافظة لإيداع المدركات كلها متخلية، وهي لها كالخزانة تحفظها إلى وقت الحاجة إليها، وآلة هاتين القوتين في تصرفهما: البطن المؤخر من الدماغ أوله للأولى ومؤخره للأخرى ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر وآلته البطن الأوسط من الدماغ، وهو القوة التي تقع بها حركة الرؤية والتوجه نحو التعقل، فتحرك النفس بها دائما بما ركب فيها من النزوع إلى ذلك لتخلص من درك القوة والاستعداد الذي للبشرية، وتخرج إلى الفعل في خلقها متشبهة بالملأ الأعلى الروحاني، وتعتبر في أول مراتب الروحانيات في إداركها بغير الآلات الجسمانية، فهي متحركة دائما ومتوجهة نحو ذلك، وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها إلى الملائكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بما جعل الله تعالى فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك.
واعلم أن النفوس البشرية في ذلك على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحاني، فيقنع بالحركة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية، وتركيب المعاني من الحافظة والوهمية على قوانين محصورة وترتيب خاص، يستفيدون به العلوم التصورية والتصديقية التي للفكر في البدن، وكلها خيالي منحصر نطاقه، إذ هو من جهة مبدئية ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها، وإن فسدت فسد ما بعدها، وهذا هو [أغلب] (1) نطاق الادراك البشري الجسماني، وإليه ينتهي مدارك العلماء، وفيه ترسخ أقدامهم.
وصنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو التعقل الروحاني والادراك الذي لا يفتقر إلى آلات البدن بما جعل فيه من الاستعداد لذلك، فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الادراك الأول البشري، ويسرح في فضاء المشاهدات .