كما أن القسم الثاني مما لا ينبغي التأمل في عدم قيام المبدأ فيه بفاعله، ضرورة أن الفاعل في نحوه لا شغل له إلا إعداد المبدأ للوجود، وإذا وجد بتأثير من موجده الحقيقي فإنما يوجد في غير ذلك الفاعل.
وأما القسم الأول فمنه ما هو من قبيل الثالث والرابع كالضاحك والقاعد والجالس، ومنه ما هو من قبيل الثاني كالكاتب والضارب والمتكلم، ضرورة قيام الكتابة الموجودة بالخطوط المنقوشة، والضرب الحاصل في الخارج بالمضروب، والمؤلف من الصوت والحروف بالهواء، ومنه الخالق سواء قلنا بعدم تغاير مبدئه للمخلوق بالذات - كما هو الأظهر - أو لا، ولا يضاف في هذه الأمثلة ونحوها إلى الفاعل ما عدا الإيجاد الذي هو عبارة عن إعطاء الوجود وليس له وجودا آخر ليكون من العرض الموجود الذي محله الفاعل.
لا يقال: إن الضرب له اعتباران: فباعتبار المحل الصادر منه يسمى المحل بالضارب، وباعتبار المحل الواقع عليه يسمى المحل بالمضروب، فالمحل في الضارب يتصف بالمبدأ باعتبار الصدور وإن كان أثره قائما بغيره، والمبدأ ليس أثر الوصف بل نفس الوصف، لأن صدور المبدأ من المحل المتصف به لا معنى له إلا ارتباطه به من حيث إنه أوقعه، والعبرة إنما هو بالواقع وانتسابه إليه إنما هو من حيث كونه علة موجدة له لا من حيث كونه موضوعا له، باعتبار أنه عرض موجود في الخارج حال وجوده.
هذا كله إن جعلنا " الضرب " عبارة عن مجرد الإيلام، وإن جعلناه عبارة عن مباشرة جسم لجسم على وجه يستتبع الألم، فقد يكون قائما بالفاعل وقد يكون قائما بالآلة كما لا يخفى.
وبجميع ما ذكر تبين بطلان ما اعترضت به الأشاعرة على نحو الضارب والمتكلم والخالق، من أن المراد " بالضرب " ليس الأثر القائم بالمضروب بل تأثير القادر فيه، وذلك التأثير قائم بالضارب لا بالمضروب، وصدق المتكلم على الله تعالى ليس باعتبار خلقه الأصوات والحروف، بل باعتبار قيام المعنى القديم