ثم لا يخفى أن الدلالة على الحصر في محل المسألة وإن كانت من المنطوق إلا أن دلالته على النفي التزامية خارجة عن محل النطق كما عرفت، فالحال في ذلك هو الحال في دلالة التعليق على الشرط والغاية وغيرهما، ولعل من عد الدلالة المذكورة من المنطوق إنما اشتبه عليه الملزوم باللازم، أو تسامح في التعبير، ولذا قال التفتازاني: إن كون هذا الحصر مفهوما مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف، للقطع بأنه لا تعلق لمحل النطق بالنفي أصلا، وفي العبارة مسامحة، إذ ليس نفس الحصر مفهوما كالشرط والغاية، وإنما المفهوم ما يلزم ما يلزمه من الانتفاء.
ولذا لو وقع التصريح بلفظ " الحصر " و " القصر " أو بما يرادفه أو يدل عليه من الأسماء والحروف في الكلام لم يخرج بذلك عن حد المفهوم على ما ذكرناه.
نعم، لو كان مدلول الجملة ثبوت الحصر بالأصالة كان من المنطوق، كما عرفت في الشرط والغاية. ومما ذكر يظهر الحال في سائر ما يفيد الحصر من الهيئات والحروف أيضا.
فمن الهيئات: مخالفة الترتيب الطبيعي، حيث يظهر من الكلام أن يكون العدول عنه لإفادة الحصر، كما عرفت.
ومنها: تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إن ولي حرف النفي، ولذا لا يحسن أن تقول: ما أنا ضربت زيدا ولا غيري، لكن الحصر فيه مطرد.
ومنها: ورود الكلام في مقام التعريف والبيان فيفيد الحصر، كما في الحدود تقول: النحو علم بكذا، والطب علم بكذا، وهكذا.
ومن الحروف: وقوع ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه، فإنه يدل على قصر الأول على الثاني، كما نص على ذلك علماء المعاني. وبه صرح جماعة من المفسرين في قوله تعالى: * (إن الله هو يقبل التوبة عن عباده) * (1) و * (كنت أنت الرقيب عليهم) * (2) و * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (3) و * (إن الله هو الرزاق) * (4)