على الوجه المذكور، فلا قاضي بصرف تلك الأدلة عن ظواهرها وارتكاب خلاف الظاهر بالنسبة إليها من غير قيام باعث على صرفها.
ثالثها: اتفاق الأصحاب على القولين الأولين، بل اتفاق الأصوليين عليه، عدا شذوذ لا عبرة بأقوالهم في المقام، وقد عرفت إرجاع أحدهما إلى الآخر، وكون النزاع بينهما لفظيا، فيتعين البناء على القول المذكور، ويبطل به سائر الأقوال المنقولة. وكأنه لذا لم يتعرض المصنف (رحمه الله) في المقام للاحتجاج على ما ذهب إليه، واقتصر على إرجاع أحد القولين إلى الآخر.
رابعها: أن جميع الأقوال المذكورة في المسألة منحصرة في ما ذكرناه، وقد عرفت إرجاع القولين الأولين إلى أمر واحد، وانتفاء الخلاف بينهما في المعنى وسائر الأقوال بين الوهن، لما فيها من ارتكاب أمور يقطع بفسادها، حسب ما هو ظاهر مما قررناه، فتعين الأخذ بما اخترناه.
خامسها: أنه لا سبيل إلى القول بوجوب الجميع على وجه الجمع، لعدم تعلق الأمر بها كذلك، ولا القول بوجوب واحد منها، لورود التخيير بينه وبين غيره. ومن الواضح عدم جواز ورود التخيير من الحكيم بين ما له صفة الوجوب وما ليس له ذلك، كيف ولو اشتمل الآخر أيضا على المصلحة المترتبة على الواجب لم يعقل ترجيح أحدهما بالوجوب دون الآخر، وإن لم يشتمل عليه لم يجز التخيير المذكور، لما فيه من تفويت مصلحة الواجب، وعلمه بأنه لا يختار إلا الواجب لا بحسن التخيير المذكور. كما لا يحسن التخيير بين الواجب والمباح إذا علم أنه يختار الواجب، وإذا بطل الوجهان تعين القول بوجوب الجميع على سبيل التخيير، أو وجوب أحدهما على سبيل البدلية على النحو الذي قررناه، وقد عرفت أن مفاد أحدهما عين الآخر فثبت المدعى.
حجة القول بكون المكلف به أحدهما لا بعينه أمور:
منها: أن الانسان لو عقد على قفيز من صبرة لم يكن المبيع قفيزا معينا، وكان الخيار للبائع في التعيين، فالواجب هناك قفيز غير معين، والتعيين فيه باختيار المكلف. وكذا الحال في غيره من الواجبات التخييرية من غير تفاوت أصلا.