قيل له: إن سكت عن الثناء رعاية لهيبة الحضرة فأطلق لسانك في مذمة الأعداء و: * (قل يا أيها الكافرون) * حتى يكون سكوتك الله وكلامك الله، وفيه تقرير آخر وهو أن هيبة الحضرة سلبت عنك قدرة القول فقل: ههنا حتى إن هيبة قولك تسلب قدرة القول عن هؤلاء الكفار التاسع عشر: لو قال له: لا تعبد ما يعبدون لم يلزم منه أن يقول بلسانه: * (لا أعبد ما تعبدون) * أما لما أمره بأن يقول بلسانه: * (لا أعبد ما تعبدون) * يلزمه أن لا يعبد ما يعبدون إذ لو فعل ذلك لصار كلامه كذبا، فثبت أنه لما قال له قل: * (لا أعبد ما تعبدون) * فلزمه أن يكون منكرا لذلك بقلبه ولسانه وجوارحه. ولو قال له: لا تعبد ما يعبدون لزمه تركه، أما لا يلزمه إظهار إنكاره باللسان، ومن المعلوم أن غاية الإنكار إنما تحصل إذا تركه في نفسه وأنكره بلسانه فقوله له: * (قل) * يقتضي المبالغة في الإنكار، فلهذا قال: * (قل.. لا أعبد ما تعبدون) *، العشرون: ذكر التوحيد ونفي الأنداد جنة للعارفين ونار للمشركين فاجعل لفظك جنة للموحدين ونارا للمشركين و: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الحادي والعشرون: أن الكفار لما قالوا نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة سكت محمد فقال: إن شافهتهم بالرد تأذوا، وحصلت النفرة عن الإسلام في قلوبهم، فكأنه تعالى قال له: يا محمد لم سكت عن الرد، أما الطمع فيما يعدونك من قبول دينك، فلا حاجة بك في هذا المعنى إليهم: * (فإنا أعطيناك الكوثر) * وأما الخوف منهم فقد أزلنا عنك، الخوف بقولنا: * (إنا شانئك هو الأبتر) * فلا تلتفت إليهم، ولا تبال بكلامهم، * (وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثاني والعشرون: أنسيت يا محمد أني قدمت حقك على حق نفسي، فقلت: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * فقدمت أهل الكتاب في الكفر على المشركين لأن طعن المشركين في، فقدمت حقك على حق نفسي وقدمت أهل الكتاب في الذم على المشركين، وأنت أيضا هكذا كنت تفعل فإنهم لما كسروا سنك قلت: " اللهم أهد قومي " ولما شغلوك يوم الخندق عن الصلاة قلت: " اللهم املأ بطونهم نارا " فههنا أيضا قدم حقي على حق نفسك وسواء كنت خائفا منهم، أو لست خائفا منهم فأظهر إنكار قولهم: * (وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثالث والعشرون: كأنه تعالى يقول: قصة امرأة زيد واقعة حقيرة بالنسبة إلى هذه الواقعة، ثم إنني هناك ما رضيت منك أن تضمر في قلبك شيئا ولا تظهره بلسانك، بل قلت لك على سبيل العتاب: * (وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * فإذا كنت لم أرض منك في تلك الواقعة الحقيرة إلا بالإظهار، وترك المبالاة بأقوال الناس فكيف أرضى منك في هذه المسألة، وهي أعظم المسائل خطرا بالسكوت، قل بصريح لسانك: * (يا أيها الكافرون لا أعبد تعبدون) * الرابع والعشرون: يا محمد ألست قلت لك: * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) * ثم إني مع هذه القدرة راعيت جانبك وطيبت قلبك وناديت في العالمين بأني لا أجعل الرسالة مشتركة بينه وبين غيره، بل الرسالة له لا لغيره حيث قلت: * (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) *
(١٣٩)