عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل، وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران، فثبت أن الإنسان لا ينفك البتة عن نوع خسران.
واعلم أن هذه الآية كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة، وتقريره أن سعادة الإنسان في حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، ثم إن الأسباب الداعية إلى الآخرة خفية، والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها، وهي الحواس الخمس والشهوة والغضب، فلهذا السبب صار أكثر الخلق مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في الخسران والبوار، فإن قيل: إنه تعالى قال في سورة التين: * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) * فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال والانتهاء إلى النقصان، وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال، فكيف وجه الجمع؟ قلنا: المذكور في سورة التين أحوال البدن، وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين.
* (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) *.
قوله تعالى: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *.
اعلم أن الإيمان والأعمال الصالحة قد تقدم تفسيرهما مرارا، ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: احتج من قال: العمل غير داخل في مسمى الإيمان، بأن الله تعالى عطف عمل الصالحات على الإيمان، ولو كان عمل الصالحات داخلا في مسمى الإيمان لكان ذلك تكريرا ولا يمكن أن يقال: هذا التكرير واقع في القرآن، كقوله تعالى: * (وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * وقوله: * (وملائكته وجبريل وميكال) * لأنا نقول هناك: إنما حسن، لأن إعادته تدل على كونه أشرف أنواع ذلك الكلي، وعمل الصالحات ليس أشرف أنواع الأمور المسماة بالإيمان، فبطل هذا التأويل. قال الحليمي: هذا التكرير واقع لا محالة، لأن الإيمان وإن لم يشتمل على عمل الصالحات، لكن قوله: * (وعملوا الصالحات) * يشتمل على الإيمان، فيكون قوله: * (وعملوا الصالحات) * مغنيا عن ذكر قوله: * (الذين آمنوا) * وأيضا فقوله: * (وعملوا الصالحات) * يشتمل على قوله: * (وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر) * فوجب أن يكون ذلك تكرارا، أجاب الأولون وقالوا: إنا لا نمنع ورود التكرير لأجل التأكيد، لكن الأصل عدمه، وهذا القدر يكفي في الاستدلال.
المسألة الثانية: احتج القاطعون بوعيد الفساق بهذه الآية، قالوا: الآية دلت على أن الإنسان في الخسارة مطلقا، ثم استثنى: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * والمعلق على الشرطين مفقود عند فقد أحدهما، فعلمنا أن من لم يحصل له الإيمان والأعمال الصالحة، لا بد وأن يكون في الخسار في الدنيا وفي الآخرة، ولما كان المستجمع لهاتين الخصلتين في غاية القلة، وكان الخسار