ذكرناها بالنسبة إلى ما استأثر الله بعلمه من فوائد هذه السورة كالقطرة في البحر. روى عن مسيلمة أنه عارضها فقال: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر، ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب لوجوه أحدها: أن الألفاظ والترتيب مأخوذان من هذه السورة، وهذا لا يكون معارضة وثانيها: أنا ذكرنا أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها، وكالأصل لما بعدها، فذكر هذه الكلمات وحدها يكون إهمالا لأكثر لطائف هذه السورة وثالثها: التفاوت العظيم الذي يقر به من له ذوق سليم بين قوله: * (إن شانئك هو الأبتر) * وبين قوله: إن مبغضك رجل كافر، ومن لطائف هذه السورة أن كل أحد من الكفار وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف آخر، فوصفه بأنه لا ولد له، وآخر بأنه لا معين له ولا ناصر له، وآخر بأنه لا يبقى منه ذكر، فالله سبحانه مدحه مدحا أدخل فيه كل الفضائل، وهو قوله: * (أنا أعطيناك الكوثر) * لأنه لما لم يقيد ذلك الكوثر بشيء دون شيء، لا جرم تناول جميع خيرات الدنيا والآخرة، ثم أمره حال حياته بمجموع الطاعات، لأن الطاعات إما أن تكون طاعة البدن أو طاعة القلب، أما طاعة البدن فأفضله شيئان، لأن طاعة البدن هي الصلاة، وطاعة المال هي الزكاة، وأما طاعة القلب فهو أن لا يأتي بشيء إلا لأجل الله، واللام في قوله: * (لربك) * يدل على هذه الحالة، ثم كأنه نبه على أن طاعة القلب لا تحصل إلا بعد حصول طاعة البدن، فقدم طاعة البدن في الذكر، وهو قوله: * (فصل) * وأخر اللام الدالة على طاعة القلب تنبيها على فساد مذهب أهل الإباحة في أن العبد قد يستغني بطاعة قلبه عن طاعة جوارحه، فهذه اللام تدل على بطلان مذهب الإباحة، وعلى أنه لا بد من الإخلاص، ثم نبه بلفظ الرب على علو حاله في المعاد، كأنه يقول: كنت ربيتك قبل وجودك، أفأترك تربيتك بعد مواظبتك على هذه الطاعات، ثم كما تكفل أولا بإفاضة النعم عليه تكفل في آخر السورة بالذب عنه وإبطال قول أعدائه، وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول بإفاضة النعم، والآخر بتكميل النعم في الدنيا والآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(١٣٥)