إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف، وكان سيد قومه، وكان له ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه فشكا إليه الضرر والمجاعة فدخل أسد على أمه يبكي فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياما، ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكا إليه من الجوع فقام هاشم خطيبا في قريش، فقال: إنكم أجدبتم جدبا تقلون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم والناس لكم تبع قالوا: نحن تبع لك فليس عليك منا خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش، قال الشاعر فيهم: الخالطين فقيرهم بغنيهم حتى يكون فقيرهم كالكافي واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضا لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله: * (وقطعناهم في الأرض أمما) * واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة، ومنه قوله تعالى: * (ولا جدال في الحج) * والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة القول الثاني: أن المراد، رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا وموسم منافع مكة يكون بهما، ولو كان يتم لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.
المسألة الثانية: نصب الرحل بلإيلافهم مفعولا به، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس كقوله: كلوا في بعض بطنكم، وقيل: معناه رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وقرئ رحلة بضم الراء وهي الجهة.
* (فليعبدوا رب هذا البيت) *.
قوله تعالى: * (فليعبدوا رب هذا البيت) * اعلم أن الإنعام على قسمين أحدهما: دفع الضرر والثاني: جلب النفع والأول أهم وأقدم، ولذلك قالوا: دفع الضرر عن النفس واجب أما جلب النفع (فإنه) غير واجب، فلهذا السبب بين تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ونعمة جلب النفع في هذه السورة، ولما تقرر أن الإنعام لا بد وأن يقابل بالشكر والعبودية، لا جرم أتبع ذكر النعمة بطلب العبودية فقال: * (فليعبدوا) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكرنا أن العبادة هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون. ثم قال بعضهم: أراد فليوحدوا رب هذا البيت لأنه هو الذي حفظ البيت دون الأوثان، ولأن التوحيد مفتاح العبادات، ومنهم من قال: المراد العبادات المتعلقة بأعمال الجوارح