الفكرية، ثم في آخر الامر تلك المجهولات الفكرية من القوة إلى الفعل، فقوله تعالى (قل أعوذ برب الناس) إشارة إلى المرتبة الأولى من مراتب النفس الانسانية وهي حال كونها خالية من جميع العلوم البديهية والكسبية، وذلك لان النفس في تلك المرتبة تحتاج إلى مرب يريها ويزينها بتلك المعارف البديهية، ثم في المرتبة الثانية وهي عند حصول هذه العلوم البديهية يحصل لها ملكة من الانتقال منها إلى استعلام العلوم الفكرية وهو المراد من قوله (ملك الناس) ثم في المرتبة الثالثة وهي عند خروج تلك العلوم الفكرية من القوة إلى الفعل يحصل الكمال التام للنفس وهو المراد من قوله (إله الناس) فكأن الحق سبحانه يسمى نفسه بحسب كل مرتبة من مراتب النفس الانسانية بما يليق بتلك المرتبة، ثم قال (من شر الوسواس الخناس) والمراد منه القوة الوهمية، والسبب في إطلاق اسم الخناس على الوهم أن العقل والوهم، قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمات، ثم إذا آل الامر إلى النتيجة فالعقل يساعد على النتيجة والوهم يخنس، ويرجع ويمتنع عن تسليم النتيجة، فلهذا السبب يسمى الوهم (بالخناس) ثم بين سبحانه أن ضرر هذا الخناس عظيم على العقل، وأنه قلما ينفك أحد عنه فكأنه سبحانه بين في هذه السورة مراتب الأرواح البشرية ونبه على عدوها ونبه على ما به يقع الامتياز بين العقل وبين الوهم، وهناك آخر درجات مراتب النفس الانسانية، فلا جرم، وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم عليه.
(الفصل الثاني) ذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها (أحدها) روى أن جبريل عليه السلام أتاه وقال إن عفريتا من الجن يكيدك، فقال إذا أويت إلى فراشك قل أعوذ برب السورتين (وثانيها) أن الله تعالى أنزلهما عليه ليكونا رقية من العين، وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا: تعالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا، ثم أتوه وقالوا ما أشد عضدك، وأقوى ظهرك وأنضر وجهك، فأنزل الله تعالى المعوذتين (وثالثها) وهو قول جمهور المفسرين، أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة وفى وتر دسه في بئر يقال لها ذوال فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان لذلك، وأخبره جبريل بموضع السحر فأرسل عليا عليه السلام، وطلحة وجاءا به، وقال جبريل للنبي حل عقدة واقرأ آية ففعل وكان كلما قرأ آية انحلت عقدة فكان يحد بعض الخفة والراحة.
واعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم، قال القاضي هذه الرواية باطلة. وكيف يمكن القول بصحتها، والله تعالى يقول (والله يعصمك من الناس) وقال (ولا يفلح الساحر حيث أتى) ولان تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر لجميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل، ولان الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك