قيل: كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة معاصينا؟ قلنا: إنهم لا يقفون على تفصيل المعاصي روى أنهم يطالعون اللوح، فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة، فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى الستر فلا ترونها، فحينئذ يقول: سبحان من أظهر الجميل، وستر على القبيح، ثم قد ذكرنا فوائد في نزولهم ونذكر الآن فوائد أخرى وحاصلها أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السماوات أحدها: أن الأغنياء يجيئون بالطعام من بيوتهم فيجعلونه ضيافة للفقراء والفقراء يأكلون طعام الأغنياء ويعبدون الله، وهذا نوع من الطاعة لا يوجد في السماوات وثانيها: أنهم يسمعون أنين العصاة وهذا لا يوجد في السماوات وثالثها: أنه تعالى قال: " لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين " فقالوا: تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا، وكيف لا يكون أحب وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين، وأنين العصاة إظهار الغفارية رب الأرض والسماوات (وهذه هي المسألة الأولى).
المسألة الثانية: هذه الآية دالة على عصمة الملائكة ونظيرها قوله: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * وقوله: * (لا يسبقونه بالقول) * وفيها دقيقة وهي أنه تعالى لم يقل: مأذونين بل قال: * (بإذن ربهم) * وهو إشارة إلى أنهم لا يتصرفون تصرفا ما إلا بإذنه، ومن ذلك قول الرجل لامرأته إن خرجت إلا بإذني، فإنه يعتبر الإذن في كل خرجة.
المسألة الثالثة: قوله: * (ربهم) * يفيد تعظيما للملائكة وتحقيرا للعصاة، كأنه تعالى قال: كانوا لي فكنت لهم، ونظيره في حقنا: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * وقال لمحمد عليه السلام: * (وإذ قال ربك) * ونظيره ما روى أن داود لما مرض مرض الموت قال: إلهي كن لسليمان كما كنت لي، فنزل الوحي وقال: قل لسليمان فليكن لي كما كنت لي، وروى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه فقد الضيف أياما فخرج بالسفرة ليلتمس ضيفا فإذا بخيمة، فنادى أتريدون الضيف؟ فقيل: نعم، فقال للمضيف: أيوجد عندك إدام لبن أو عسل؟ فرفع الرجل صخرتين فضرب إحداهما بالأخرى فانشقا فخرج من إحداهما اللبن ومن الأخرى العسل، فتعجب إبراهيم وقال: إلهي أنا خليلك ولم أجد مثل ذلك الإكرام، فماله؟ فنزل الوحي يا خليلي كان لنا فكنا له.
أما قوله تعالى: * (من كل أمر) * فمعناه تنزل الملائكة والروح فيها من أجل كل أمر، والمعنى أن كل واحد منهم إنما نزل لمهم آخر، ثم ذكروا فيه وجوها أحدها: أنهم كانوا في أشغال كثيرة فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود، وبعضهم بالدعاء، وكذا القول في التفكر والتعليم، وإبلاغ الوحي، وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة أو ليسلموا على المؤمنين وثانيها: وهو قول الأكثرين