وأما الدعاة إلى معرفة أحكام الله فهم الأنبياء عليهم السلام، ولما كان كل بق وبعوضة داعيا إلى معرفة الذاتي والصفات قال: * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) *، ذلك لأن هذه البعوضة بحسب حدوث ذاتها وصفاتها تدعو إلى قدرة الله بحسب تركيبها العجيب تدعوا إلى علم الله وبحسب تخصيص ذاتها وصفاتها بقدر معين تدعو إلى إرادة الله، فكأنه تعالى يقول: مثل هذا الشيء كيف يستحيا منه، روى أن عمر رضي الله عنه كان في أيام خلافته دخل السوق فاشترى كرشا وحمله بنفسه فرآه على من بعيد فتنكب على عن الطريق فاستقبله عمر وقال له: لم تنكبت عن الطريق؟ فقال علي: حتى لا تستحي، فقال: وكيف أستحي من حمل ما هو غذائي! فكأنه تعالى يقول: إذا كان عمر لا يستحي من الكرش الذي هو غذاؤه في الدنيا فكيف أستحي عن ذكر البعوض الذي يعطيك غذاء دينك، ثم كأنه تعالى يقول: يا محمد إن نمروذ لما ادعى الربوبية صاح عليه البعوض بالإنكار، فهؤلاء الكفار لما دعوك إلى الشرك أفلا تصيح عليهم أفلا تصرح بالرد عليهم: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * وإن فرعون لما ادعى الإلهية فجبريل ملأ فاه من الطين فإن كنت ضعيفا فلست أضعف من بعوضة نمروذ، وإن كنت قويا فلست أقوى من جبريل، فأظهر الإنكار عليهم و: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثاني والأربعون: كأنه تعالى يقول يا محمد: * (قل) * بلسانك: * (لا أعبد ما تعبدون) * واتركه قرضا علي فإني أقضيك هذا القرض على أحسن الوجوه، ألا ترى أن النصراني إذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله فأقول أنا لا أكتفي بهذا ما لم تصرح بالبراءة عن النصرانية، فلما أوجبت على كل مكلف أن يتبرأ بصريح لسانه عن كل دين يخالف دينك فأنت أيضا أوجب على نفسك أن تصرح برد كل معبود غيري فقل: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثالث والأربعون: أن موسى عليه السلام كان في طبعه الخشونة فلما أرسل إلى فرعون قيل له: * (فقولا له قولا لينا) * وأما محمد عليه السلام فلما أرسل إلى الخلق أمر بإظهار الخشونة تنبيها على أنه في غاية الرحمة، فقيل له: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) *.
أما قوله تعالى: * (قل يا أيها الكافرون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (يا أيها) *، قد تقدم القول فيها في مواضع، والذي نزيده ههنا، أنه روى عن علي عليه السلام أنه قال: يا نداء النفس وأي نداي القلب، وها نداء الروح، وقيل: يا نداء الغائب وأي للحاضر، وها للتنبيه، كأنه يقول: أدعوك ثلاثا ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك الخفي، ومنهم من قال: أنه تعالى جمع بين يا الذي هو للبعيد، وأي الذي هو للقريب، كأنه تعالى يقول: معاملتك معي وفرارك عني يوجب البعد البعيد، لكن إحساني إليك، ووصول نعمتي إليك توجب القرب القريب: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * وإنما قدم يا الذي يوجب البعد على أي الذي يوجب القرب، كأنه يقول: التقصير منك والتوفيق مني، ثم ذكرها بعد ذلك لأن