وأما الوجه الثاني: من الأجوبة التي ذكرها شعيب عليه السلام فقوله: * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) * قال صاحب " الكشاف ": يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه. فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذهب عنه صادرا، ومنه قوله: * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) * يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة، وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد، وذلك يدل على كمال العقل، وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح، فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لا بد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلهما إلى جزأين، التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال البتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة، فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق، وأشرف الأديان والشرائع.
وأما الوجه الثالث: من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله: * (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) * والمعنى ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وقوله: * (ما استطعت) * فيه وجوه: الأول: أنه ظرف والتقدير: مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهدا. والثاني: أنه بدل من الإصلاح، أي المقدار الذي استطعت منه. والثالث: أن يكون مفعولا له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد، وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورا فيما بين الخلق بهذه الصفة، فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة، فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة، فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي، وذلك هو الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله: * (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) * وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته.
واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد، لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد