أبواب الحكمة، وتجلت له أنوار عالم الجلال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " من أخلص لله أربعين صباحا، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه " فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام، ومن درجة إلى درجة، فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات.
والقول الثاني: أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم، وهو قول عكرمة، وعن وهب بن منبه: كانت السياحة في بني إسرائيل، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئا، فقال: يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي، فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس، فلا بد له من الصبر عليها، وقد ينقطع زاده، فيحتاج إلى التوكل على الله، وقد يلقى أفاضل مختلفين، فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة، وقد يلقى الأكابر من الناس، فيستحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة، فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته، وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين.
والقول الثالث: قال أبو مسلم: * (السائحون) * السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح، سيح الماء الجاري، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات.
الصفة الخامسة والسادسة: قوله: * (الراكعون الساجدون) * والمراد منه إقامة الصلوات. قال القاضي: وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده. والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها. فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة: قوله: * (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) * واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ كتاب كبير مذكور في علم الأصول. فلا يمكن إيراده ههنا. وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد، لأن رأس المعروف الإيمان بالله، ورأس المنكر الكفر بالله.