بالجنة، وهو التحقيق. لأن الإنسان ما دام يبقى متعلق القلب بمصالح عالم الجسم المتغير المتبدل، وهو البدن والمال، امتنع وصوله إلى السعادات العالية والدرجات الشريفة، فإذا انقطع التفاته إليها وبلغ ذلك الانقطاع إلى أن عرض البدن للقتل، والمال للإنفاق في طلب رضوان الله، فقد بلغ إلى حيث رجح الهدى على الهوى، والمولى على الدنيا، والآخرة على الأولى، فعند هذا يكون من السعداء الأبرار والأفاضل الأخيار، فالبائع هو جوهر الروح القدسية والمشتري هو الله، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني، والعوض الثاني الجنة الباقية والسعادات الدائمة، فالربح حاصل والهم والغم زائل، ولهذا قال: * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) *.
ثم قال: * (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) * قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (يقاتلون) * فيه معنى الأمر كقوله: * (تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * وقيل جعل * (يقاتلون) * كالتفسير لتلك المبايعة، وكالأمر اللازم لها. قرأ حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل وهو كونهم مقتولين على كونهم قاتلين، والباقون بتقديم الفاعل على المفعول. أما تقديم الفاعل على المفعول فظاهر، لأن المعنى أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين. وأما تقديم المفعول على الفاعل، فالمعنى: أن طائفة كبيرة من المسلمين، وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة، بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء. قاتلين لهم بقدر الإمكان، وهو كقوله: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) * (آل عمران: 146) أي ما وهن من بقي منهم. واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا؟ فمنهم من قال: هو مختص بالجهاد بالمقاتلة، لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله: * (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) * ومنهم من قال: كل أنواع الجهاد داخل فيه، بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد الله بن رواحة. وأيضا فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثارا من القتال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: " لأن يهدي الله على يدك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس " ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة. وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة. والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم، ولا فساد في ذاته، إنما الفساد في الصفة القائمة به، وهي الكفر والجهل. ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة، مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى. ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعا به من بعض الوجوه، لا جرم حث الشرع على إبقائه، فقال: " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به " فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة، وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة، والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات، فكان المقام الأول أولى وأفضل.