التي تظهر على جوارحهم، وأقول أيضا مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات، وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول. فوجب كون العلم بالغيب سابقا على العلم بالشهادة، فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدما على الشهادة.
المسألة الثانية: إن حملنا قوله تعالى: * (فسيرى الله عملكم) * على الرؤية، فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله: * (وستردون إلى عالم الغيب والشهادة) * وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله: * (وستردون إلى عالم الغيب والشهادة) * جاريا مجرى التفسير لقوله: * (فسيرى الله عملكم) * معناه: بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا، أو بإظهار أضدادها. وقوله: * (وستردون إلى عالم الغيب والشهادة) * معناه: ما يضره في القيامة من حال الثواب والعقاب.
ثم قال: * (فينبئكم بما كنتم تعملون) * والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها، لأن المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف. ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم، فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر، وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر. وقال حكماء الإسلام، المراد من قوله تعالى: * (فسيرى الله عملكم) * الإشارة إلى الثواب الروحاني، وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعا من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه، فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملا لتلك المشاق، عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها، وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة.
وأما قوله: * (وستردون إلى عالم الغيب والشهادة) * فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة. ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي، فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه، قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته، وهذا نوع من العذاب الروحاني، وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذرا منه. والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني نسأل الله العصمة منه ومن سائر العذاب.
قوله تعالى * (وءاخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) *.