التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضا يفعل ذلك، ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه، فهذا غير مستبعد في الجملة. الثالث: يروى عن علي أنه سمع رجلا يستغفر لأبويه المشركين قال: فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. الرابع: يروى أن رجلا أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: كان أبي في الجاهلية يصل الرحم، ويقري الضيف، ويمنح من ماله. وأي أبي؟ فقال: أمات مشركا؟ قال: نعم. قال: في ضحضاح من النار، فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام، فقال: " إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار، إن أباك لم يقل يوما أعوذ بالله من النار ".
المسألة الثانية: قوله: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * يحتمل أن يكون المعنى ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي: فالأول: معناه أن النبوة والإيمان يمنع من الاستغفار للمشركين. والثاني: معناه لا تستغفروا والأمران مقاربان. وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله: * (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * وأيضا قال: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * والمعنى أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار. فطلب الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وأنه لا يجوز. وأيضا لما سبق قضاء الله تعالى بأنه يعذبهم. فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين، وذلك يوجب نقصان درجة النبي عليه الصلاة والسلام وحظ مرتبته، وأيضا أنه قال: * (أدعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) وقال عنهم أنهم أصحاب الجحيم فهذا الاستغفار يوجب الخلف في أحد هذين النصين، وإنه لا يجوز وقد جوز أبو هاشم أن يسأل العبد ربه شيئا بعد ما أخبر الله عنه أنه لا يفعله، واحتج عليه بقول أهل النار * (ربنا أخرجنا منها) * (المؤمنون: 107) مع علمهم بأنه تعالى لا يفعل ذلك، وهذا في غاية البعد من وجوه: الأول: أم هذا مبني على مذهبه أن أهل الآخرة لا يجهلون ولا يكذبون، وذلك ممنوع، بل نص القرآن يبطله. وهو قوله: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) * (أنظر كيف كذبوا على أنفسهم) * (الأنعام: 24) والثاني: أن في حقهم يحسن ردهم عن ذلك السؤال وإسكاتهم، أما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فغير جائز، لأنه يوجب نقصان منصبه. والثالث: أن مثل هذا السؤال الذي يعلم أنه لا فائدة فيه إما أن يكون عبثا أو معصية. وكلاهما جائزان على أهل النار وغير جائزين على أكابر الأنبياء عليهم السلام.