نصب الله تعالى الإمام لتنفيذ الأحكام، ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير مقبولا على الغير إلا بالحجة، فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة، ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلا بد من باب مشتمل عليها، فهذا ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده، ولما كانت كثيرة والله تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل، وتارة بأن أمر الرسول عليه السلام حتى يبينها للمكلفين، لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية، فقال: * (والحافظون لحدود الله) * وهو يتناول جملة هذه التكاليف.
واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك، فإن أعمال المكلفين قسمان: أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح، فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها البتة ولم ينصفوا لها كتبا وأبوابا وفصولا. ولم يبحثوا عن دقائقها، ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى. لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه: * (والحافظون لحدود الله) * متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال: * (وبشر المؤمنين) * والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة: * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) * فذكر هذه الصفات التسعة، ثم ذكر عقيبها قوله: * (وبشر المؤمنين) * تنبيها على أن البشارة المذكورة في قوله: * (فاستبشروا) * لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات.
فإن قيل: ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل، ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة؟
قلنا: لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله، والسياحة لطلب العلم، والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته، فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل، وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء، ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضا فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح، إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب، وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا القسم على سبيل التفصيل، وذكر هذا القسم