أجاب الجبائي فقال: معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين، وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريدا للكفر، ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب: أريد أن تدخل علي في وقت مرضي، فهذه الإرادة لا توجب كونه مريدا لمرض نفسه، وقد يقول للطبيب: أريد أن تطيب جراحتي، وهذا لا يقتضي أن يكون مريدا لحصول تلك الجراحة، وقد يقول السلطان لعسكره: اقتلوا البغاة، حال إقدامهم على الحرب، وهذا لا يدل على كونه مريدا لذلك الحرب، فكذا ههنا.
والجواب: أن الذي قاله تمويه عجيب، وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد، وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء، فإذا قال المريض للطبيب: أريد أن تدخل علي في وقت مرضي، كان معناه: أريد أن تسعى في إزالة مرضي، وإذا قال له: أريد أن تطيب جراحتي كان معناه: أريد أن تزيل عني هذه الجراحة، وإذا قال السلطان: اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب، كان معناه: طلب إزالة تلك المحاربة وإبطالها وإعدامها، فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته فيمتنع أن يكون وجوده مرادا بخلاف هذه الآية، وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره، وليس أيضا مستلزما لتلك الإزالة، بل هما أمران متناسبان، ولا منافاة بينهما البتة، فلما ذكر الله في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين، وجب أن يكون مريدا لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق، كما أنه لو قال: أريد ألقى (أن) فلانا حال كونه في الدار، فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار، وتمام التحقيق في هذا التقدير: أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر، ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته، فلما أراد الله الإزهاق حال الكفر، وثبت أن من أراد شيئا فقد أراد جميع ما هو من ضروراته، لزم كونه تعالى مريدا لذلك الكفر، فثبت أن الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه.
* (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون) *.