الرؤية لقاء، كما أن الإدراك هو البلوغ. قال تعالى: * (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) * (الشعراء: 61) أي لملحقون، ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا، ثم نقول: لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية، بل المقصود أنه تعالى * (أعقبهم نفاقا إلى يوم يلقونه) * أي حكمه وقضاءه، وهو كقول الرجل ستلقى عملك غدا، أي تجازى عليه، قال تعالى: * (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) * والمعنى: أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب.
ثم قال تعالى: * (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) * والسر ما ينطوي عليه صدورهم، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم، وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما، ونظيره قوله تعالى: * (وقربناه نجيا) * (مريم: 52) وقوله: * (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا) * (يوسف: 80) وقوله: * (فلا تتناجوا بالإثم والعدوان... وتناجوا بالبر والتقوى) * (المجادلة: 9) وقوله: * (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) * (المجادلة: 12).
إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى، فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال: ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم يكفي يتجرؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر، وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر؟
ثم قال: * (وأن الله علام الغيوب) * والعلام مبالغة في العالم، والغيب ما كان غائبا عن الخلق. والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء. فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات، فيجب كونه عالما بما في الضمائر والسرائر، فكيف يمكن الإخفاء منه؟ ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام: * (إنك أنت علام الغيوب) * (المائدة: 116) فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال.
* (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعا وطبعا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم ذات يوم وحث على أن