لأحد من بعدي) * يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزنا، فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة، وإنما قال: * (على من يشاء) * لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سببا لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير، وقد يصير سببا لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال: * (ويتوب الله على من يشاء) *.
ثم قال: * (والله عليم) * أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته * (حكيم) * مصيب في أحكامه وأفعاله.
* (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) *.
اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد، والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء: قوله: * (أم) * من الاستفهام الذي يتوسط الكلام، ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها.
المسألة الثانية: قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة، فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل. قال الواحدي: يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع.
المسألة الثالثة: المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين: الأول: أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه المعلوم، والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده، واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده.