التقلب في الكسب ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد: لما رأى لبد النسور تطايرت * رفع القوادم كالفقير الأعزل قال ابن الأعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار، يضرب مثلا لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور، ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى: * (وجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) * (القيامة: 24، 25) جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي.
الوجه الثالث: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام، كان يتعوذ من الفقر، وقال: " كاد الفقر أن يكون كفرا " ثم قال: " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين " فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الحديثان، لأنه تعوذ من الفقر، ثم سأل حالا أسوأ منه، أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض البتة.
الوجه الرابع: أن كونه مسكينا، لا ينافي كونه مالكا للمال بدليل قوله تعالى: * (أما السفينة فكانت لمساكين) * (الكهف: 79) فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير، ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان سمي فقيرا مع أنه يملك شيئا.
فإن قالوا: الدليل عليه قوله تعالى: * (والله الغني وأنتم الفقراء) * (محمد: 38) فوصف الكل، بالفقر مع أنهم يملكون أشياء.
قلنا: هذا بالضد أولى لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى الله تعالى، فإن أحدا سوى الله تعالى لا يملك البتة شيئا بالنسبة إلى الله فصح قولنا.
الوجه الخامس: قوله تعالى: * (أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة) * (البلد: 14 - 16) والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي ألصق بالتراب من شدة الفقر، فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه * (ذا متربة) * وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئا، فهذا يدل على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء.
الوجه السادس: قال ابن عباس رضي الله عنهما، الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئا، قال: وهم أهل الصفة، صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم، فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس.
وجه الاستدلال: أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر، فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر المساكين بالطوافين، ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحدا شيئا أشد من أحوال من يحتاج، ثم يسأل الناس ويطوف عليهم، ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالا من المسكين.