والوجه الحادي عشر: أن العلماء قالوا: شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم، والزكاة شكر النعمة، فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب. والوجه الثاني عشر: أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألف بالمودة بين المسلمين، وزوال الحقد والحسد عنهم، وكل ذلك من المهمات، فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة، فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة، الأول: أن الله تعالى خلق الأموال، وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها. فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل، بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد، فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة، وهو ممتاز عنهم بكونه ساعيا في تحصيل ذلك المال، فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره، وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة، وحضر إنسان آخر محتاج، فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال. أما في حق المالك، فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله، وأيضا شدة تعلق قلبه به، فإن ذلك التعلق أيضا نوع من أنواع الحاجة. وأما في حق الفقير، فاحتياجه إلى ذلك المال يوجب تعلقه به، فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان. فيقال حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به، وحصل للفقير حق الاحتياج، فرجحنا جانب المالك، وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيرا منه توفيقا بين الدلائل بقدر الإمكان. الثاني: أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلا عن المقصود الذي لأجله خلق المال، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى، وهو غير جائز، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية. الثالث: أن الفقراء عيال الله لقوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * (هود: 6) والأغنياء خزان الله لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله، ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة، فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي، ولا يملك ملء بطنه طعاما، وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفوا صفوا.
إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه: اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي.
الوجه الرابع: أن يقال: المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه، وإهمال جانب الفقير