إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت " وذكر عبيد بن عمير، ورفعه إلى الرسول عليه السلام: " من كثر ماله اشتد حسابه، ومن كثر بيعه كثرت شياطينه، ومن ازداد من السلطان قربا، ازداد من الله بعدا " والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة، والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا، والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها. قال بعض المحققين: الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: الأول: الذي يكون أزليا أبديا، وهو الله جل جلاله والثاني: الذي لا يكون أزليا ولا أبديا وهو الدنيا. والثالث: الذي يكون أزليا ولا يكون أبديا وهذا محال الوجود، لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. والرابع: الذي يكون أبديا ولا يكون أزليا وهو الآخرة وجميع المكلفين، فإن الآخرة لها أول، لكن لا آخر لها، وكذلك المكلف سواء كان مطيعا أو كان عاصيا فلحياته أول، ولا آخر لها.
وإذا ثبت هذا ثبت أن المناسبة الحاصلة بين الإنسان المكلف وبني الآخرة أشد من المناسبة بنيه وبين الدنيا، ويظهر من هذا أنه خلق للآخرة لا للدنيا، فينبغي أن لا يشتد عجبه بالدنيا، وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا.
أما قوله: * (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال النحويون: في الآية محذوف، كأنه قيل: إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم، ويجوز أيضا أن يكون هذا اللام بمعنى " أن " كقوله: * (يريد الله ليبين لكم) * (النساء: 26) أي أن يبين لكم.
المسألة الثانية: قال مجاهد والسدي وقتادة: في الآية تقديم وتأخير. والتقدير: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال القاضي: وههنا سؤالان: الأول: وهو أن يقال: المال والولد لا يكونان عذابا، بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده، فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير، إلا أن هذ الالتزام لا يدفع هذا السؤال. لأنه يقال: بعد هذا التقديم والتأخير، فكيف يكون المال والولد عذابا؟ فلا بد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا أراد التعذيب بها من حيث كانت سببا للعذاب، وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير، لأنه يصح أن يقال يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سببا للعذاب، وأيضا فلو أنه قال: * (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا) * لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة، لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا، وليس كذلك حال العذاب، فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة، فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء.