الإنسان في الخير والخصب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) * (الرعد: 17) وبقوله عليه الصلاة والسلام: * (حصنوا أموالكم بالزكاة ".
والوجه السادس: أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء، فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه، إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره، فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام، ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق، والاستغناء بالشيء صفة الخلق، فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده أموالا كثيرة فقد رزقه نصيبا وافرا من باب الاستغناء بالشيء. فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء، إلى المقام الذي هو أعلى منه، وأشرف منه وهو الاستغناء عن الشيء.
والوجه السابع: أن المال سمي مالا لكثرة ميل كل أحد إليه، فهو غاد ورائح، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق. فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله، فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، وسمعت واحدا يقول: الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر، فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة.
والوجه الثامن: وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين، فكان البذل أولى.
والوجه التاسع: أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى، والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله، وذلك منتهى كمالات الإنسانية.
والوجه العاشر: أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء: الروح والبدن والمال. فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقا في هذا التكليف. ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقا بالذكر والقراءة، والبدن مستغرقا في تلك الأعمال، بقي المال؛ فلو لم يصر المال مصروفا إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه، وذلك جهل، لأن مراتب السعادات ثلاثة: أولها: السعادات الروحانية. وثانيها: السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى. وثالثها: السعادات الخارجية وهي المال والجاه. فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية، فإذا صار الروح مبذولا في مقام العبودية، ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي، وذلك جهل. فثبت أنه يجب على العاقل أيضا بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى.