كذا " وكانت براءة من آخر القرآن نزولا. فتوفي صلى الله عليه وسلم ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقرن بينهما. قال القاضي يبعد أن يقال: إنه عليه السلام لم يبين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال، لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل، ولو جوزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي، لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السور الواحدة، وتجويزه يطرف ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن. وذلك يخرجه من كونه حجة، بل الصحيح أنه عليه السلام أمر بوضع هذه السورة، بعد سورة الأنفال وحيا، وأنه عليه السلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا.
الوجه الثاني: في هذا الباب ما يروى عن أبي بن كعب أنه قال: إنما توهموا ذلك، لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود. فوضعت إحداهما بجنب الأخرى والسؤال المذكور عائد ههنا، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة.
والوجه الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة أم سورتان؟ فقال بعضهم: هما سورة واحدة لأن كلتيهما نزلت في القتال ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال وهي سبع، وما بعدها المئون. وهذا قول ظاهر لأنهما معا ومائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال هما سورتان، فلما ظهر الاختلاف بين الصحابة في هذا الباب تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان، وما كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة، وعلى هذا القول لا يلزمنا تجويز مذهب الإمامية، وذلك لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين، وعملوا عملا يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلا، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير، وذلك يبطل قول الإمامية.
الوجه الرابع: في هذا الباب: أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله: * (براءة من الله ورسوله) * (التوبة: 1) فلما كان هذا عين ذلك الكلام وتأكيدا له وتقريرا له، لزم وقوع الفاصل بينهما، فكان إيقاع الفصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين، وترك كتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى.
الوجه الخامس: قال ابن عباس: سألت عليا رضي الله عنه: لم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود