وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتمردوا، فقوله: * (إن الذين) * يفيد هذا المعنى.
والصفة الثانية: قوله: * (وهاجروا) * يعني: فارقوا الأوطان، وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله، ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة، قال تعالى: * (أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * (النساء: 66) جعل مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس، فهؤلاء في المرتبة الأولى تركوا الأديان القديمة لطلب مرضاة الله تعالى، وفي المرتبة الثانية تركوا الأقارب والخلان والأوطان والجيران لمرضاة الله تعالى.
والصفة الثالثة: قوله: * (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) * أما المجاهدة بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان فقد ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم ومزارعهم، وبقيت في أيدي الأعداء، وأيضا فقد احتاجوا إلى الإنفاق الكثير بسبب تلك العزيمة، وأيضا كانوا ينفقون أموالهم على تلك الغزوات، وأما المجاهدة بالنفس فلأنهم كانوا أقدموا على محاربة بدر من غير آلة ولا أهبة ولا عدة مع الأعداء الموصوفين بالكثرة والشدة، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله.
وأما الصفة الرابعة: فهي أنهم كانوا أول الناس إقداما على هذه الأفعال والتزاما لهذه الأحوال، ولهذه السابقة أثر عظيم في تقوية الدين. قال تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) * (الحديد: 10) وقال: * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) * (التوبة: 100) وإنما كان السبق موجبا للفضيلة، لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، فيصير ذلك سببا للقوة أو الكمال، ولهذا المعنى قال تعالى: * (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) * (المائدة: 32) وقال عليه السلام: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " ومن عادة الناس أن دواعيهم تقوى بما يرون من أمثالهم في أحوال الدين والدنيا، كما أن المحن تخف على قلوبهم بالمشاركة فيها، فثبت أن حصول هذه الصفات الأربعة للمهاجرين الأولين يدل على غاية الفضيلة ونهاية المنقبة، وأن ذلك يوجب الاعتراف بكونهم رؤساء المسلمين وسادة لهم.
وأما القسم الثاني: من المؤمنين الموجودين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم فهم الأنصار، وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه، فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود البتة،