من قرأ * (ما كان للنبي) * فمعناه: أن هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي، وهو محمد عليه الصلاة والسلام. قال الزجاج: * (أسرى) * جمع، و * (أسارى) * جمع الجمع. قال ولا أعلم أحدا قرأ * (أسارى) * وهي جائزة كما نقلنا عن صاحب " الكشاف ": أنه نقل أن بعضهم قرأ به وقوله: * (حتى يثخن في الأرض) * فيه بحثان:
البحث الأول: قال الواحدي: الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته، يقال: قد أثخنه المرض إذا اشتد قوة المرض عليه، وكذلك أثخنه الجراح، والثخانة الغلظة فكل شيء غليظ، فهو ثخين. فقوله: * (حتى يثخن في الأرض) * معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر، ثم إن كثيرا من المفسرين. قالوا المراد منه: أن يبالغ في قتل أعدائه. قالوا وإنما حملنا اللفظ عليه لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل. قال الشاعر: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * حتى يراق على جوانبه الدم ولأن كثرة القتل توجب قوة الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجراءة، ومن الإقدام على ما لا ينبغي، فلهذا السبب أمر الله تعالى بذلك.
البحث الثاني: أن كلمة * (حتى) * لانتهاء الغاية. فقوله: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) * يدل على أن بعد حصول الإثخان في الأرض له أن يقدم على الأسر.
أما قوله: * (تريدون عرض الدنيا) * فالمراد الفداء، وإنما سمى منافع الدنيا ومتاعها عرضا، لأنه لا ثبات له ولا دوام، فكأنه يعرض ثم يزول، ولذلك سمى المتكلمون الأعراض أعراضا، لأنه لا ثبات لها كثبات الأجسام لأنها تطرأ على الأجسام، وتزول عنها مع كون الأجسام باقية، ثم قال: * (والله يريد الآخرة) * يعني أنه تعالى لا يريد ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول وإنما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الباقية الدائمة المصونة عن التبديل والزوال. واحتج الجبائي والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول: لا كائن من العبد إلا والله يريده لأن هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه، ونص الله على أنه لا يريده بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة دون ما يكون فيه عصيان.
وأجاب أهل السنة عنه بأن قالوا: إنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأسر منهم طاعة، وعملا جائزا مأذونا. ولا يلزم من نفي إرادة كون هذا الأسر طاعة، نفي كونه مراد الوجود، وأما الحكماء فإنهم يقولون الشيء مراد بالعرض مكروه بالذات.
ثم قال: * (والله عزيز حكيم) * والمراد أنكم إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم لأن الله عزيز لا يقهر