وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بهذه الواقعة. قال المفسرون: فوردوا بدرا وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
واعلم أنه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء: الأول: البطر قال الزجاج: البطر الطغيان في النعمة. والتحقيق أن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها إلى مرضاته وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر. وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. والثاني: قوله: * (ورئاء الناس) * والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحا، والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرئاء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية. روي أنه صلى الله عليه وسلم لما رآهم في موقف بدر قال: " اللهم أن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك " والثالث: قوله: * (ويصدون عن سبيل الله) * فعل مضارع وعطف الفعل على الاسم غير حسن. وذكر الواحدي فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون قوله: * (ويصدون عن سبيل الله) * بمنزلة صادين. والثاني: أن يكون قوله: * (بطرا ورئاء) * بمنزلة يبطرون ويراؤن، وأقول: إن شيئا من هذه الوجوه لا يشفي الغليل، لأنه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل، ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر، وعن الثالث بالفعل. وأقول: إن الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ذكر أن الاسم يدل على التمكين والاستمرار والفعل على التجدد والحدوث، قال ومثاله في الاسم قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) * (الكهف: 18) وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة، ومثال الفعل قوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السماء والأرض) * (يونس: 31) وذلك يدل على أنه تعالى يوصل الرزق إليهم ساعة فساعة، هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر.
إذا عرفت هذا فنقول: إن أبا جهل ورهطه وشيعته كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب، وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى محمد عليه الصلاة والسلام النبوة ولهذا السبب ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل والله أعلم.
وحاصل الكلام: أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله، ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات، الطر والرئاء بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله.
واعلم أن حاصل القرآن من أوله إلى آخره دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق، وأمرهم بالعناء في طريق عبودية الحق، والمعصية مع الانكسار أقرب إلى الاخلاص من الطاعة مع الافتخار، ثم