ثم قدم دقينوس الجبار المدينة التي منها خرج إلى مدينته، وهي مدينة أفسوس، فأمر عظماء أهلها، فذبحوا للطواغيت، ففزع في ذلك أهل الايمان، فتخبأوا من كل مخبأ، وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أن الجبار دقينوس قد دخل المدينة، وأنهم قد ذكروا وافتقدوا والتمسوا مع عظماء أهل المدينة ليذبحوا للطواغيت، فلما أخبرهم بذلك، فزعوا فزعا شديدا، ووقعوا سجودا على وجوههم يدعون الله، ويتضرعون إليه، ويتعوذون به من الفتنة، ثم إن يمليخا قال لهم: يا إخوتاه، ارفعوا رؤوسكم، فأطعموا من هذا الطعام الذي جئتكم به، وتوكلوا على ربكم، فرفعوا رؤوسهم، وأعينهم تفيض من الدمع حذرا وتخوفا على أنفسهم، فطعموا منه، وذلك مع غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون، ويذكر بعضهم بعضا على حزن منهم، مشفقين مما أتاهم به صاحبهم من الخبر.
فبينا هم على ذلك، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون، مصدقون بالوعد، ونفقتهم موضوعة عندهم، فلما كان الغد فقدهم دقينوس، فالتمسهم فلم يجدهم، فقال لعظماء أهل المدينة: لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا. لقد كانوا يظنون أن بي غضبا عليهم فيما صنعوا في أول شأنهم، لجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأجهل عليهم في نفسي، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشئ إن هم تابوا وعبدوا آلهتي، ولو فعلوا لتركتهم، وما عاقبتهم بشئ سلف منهم. فقال له عظماء أهل المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنت أجلتهم أجلا، وأخرتهم عن العقوبة التي أصبت بها غيرهم، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الاجل، ولكنهم لم يتوبوا ولم ينزعوا ولم يندموا على ما فعلوا، وكانوا منذ انطلقت يبذرون أموالهم بالمدينة، فلما علموا بقدومك فروا فلم يروا بعد. فإن أحببت أن تؤتى بهم، فأرسل إلى آبائهم فامتحنهم، واشدد عليهم يدلوك عليهم، فإنهم مختبئون منك.
فلما قالوا ذلك لدقينوس الجبار، غضب غضبا شديدا، ثم أرسل إلى آبائهم، فأتى بهم فسألهم عنهم وقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوا أمري، وتركوا آلهتي، ائتوني بهم، وأنبئوني بمكانهم! فقال له آباؤهم: أما نحن فلم نعص أمرك ولم نخالفك. قد عبدنا الهتك وذبحنا لهم، فلم تقتلنا في قوم مردة، قد ذهبوا بأموالنا فبذروها وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا، فارتقوا في جبل يدعى بنجلوس، وبينه وبين المدينة أرض