من البلد التي وقع بها الطاعون قد ثبت النهي عنه والمجذوم قد ورد الامر بالفرار منه فكيف يصح القياس وقد تقدم في باب الجذام من بيان الحكمة في ذلك ما يغني عن إعادته وقد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكما منها أن الطاعون في الغالب يكون عاما في البلد الذي يقع به فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها فلا يفيده الفرار لان المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل ومنها أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره ضائع المصلحة لفقد من يتعهده حيا وميتا وأيضا فلو شرع الخروج فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء وقد قالوا إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه بخذلانه وقد جمع الغزالي بين الامرين فقال الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن فالخارج من البلد الذي يقع به لا يخلص غالبا مما استحكم به وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لبقي المرضى لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم ومنها ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة وتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم يوافقهم بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التي حصل تكيف بدنه بها فأفسدته فمنع من الخروج لهذه النكتة ومنها ما تقدم أن الخارج يقول لو أقمت لأصبت والمقيم يقول لو خرجت لسلمت فيقع في اللو المنهي عنه والله أعلم وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في قوله فلا تقدموا عليه فيه منع معارضة متضمن الحكمة بالقدر وهو من مادة قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وفي قوله فلا تخرجوا فرارا منه إشارة إلى الوقوف مع المقدور والرضا به قال وأيضا فالبلاء إذا نزل إنما يقصد به أهل البقعة لا البقعة نفسها فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به ولا محالة فأينما توجه يدركه فأرشده الشارع إلى عدم النصب من غير أن يدفع ذلك المحذور وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد الذي يترجح عندي في الجمع بينهما أن في الاقدام عليه تعريض النفس للبلاء ولعلها لا تصبر عليه وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك حذرا من اغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند الاختبار وأما الفرار فقد يكون داخلا في التوغل في الأسباب بصورة من يحاول النجاة بما قدر عليه فأمرنا الشارع بترك التكلف في الحالتين ومن هذه المادة قوله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا فأمر بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف اغترار النفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليما لأمر الله تعالى وفي قصة عمر من الفوائد مشروعية المناظرة والاستشارة في النوازل وفي الاحكام وأن الاختلاف لا يوجب حكما وأن الاتفاق هو الذي يوجبه وأن الرجوع عند الاختلاف إلى النص وأن النص يسمى علما وأن الأمور كلها تجري بقدر الله وعلمه وأن العالم قد يكون عنده ما لا يكون عند غيره ممن هو أعلم منه وفيه وجوب العمل بخبر الواحد وهو من أقوى الأدلة على ذلك لان ذلك كان باتفاق أهل الحل والعقد من الصحابة فقبلوه من عبد الرحمن بن عوف ولم يطلبوا معه مقويا وفيه الترجيح بالأكثر عددا والأكثر تجربة لرجوع
(١٦٠)