والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لانهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز (قلت) ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة في الشمائل وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي قال شيخنا في شرح الترمذي لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي (قلت) ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها وحملها على حال الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا فقال يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة إما عند الحرب وإما عند عدم الاناء أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الاناء ثم قال ويحتمل أن يكون شرب من إداوة والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام كذا قال والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شئ من الهوام فيها والضرر يحصل به ولو كان حقيرا والله أعلم (قوله باب النهي عن التنفس في الاناء) ذكر فيه حديث أبي قتادة وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة (قوله فلا يتنفس في الاناء) زاد ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه النهي عن النفخ في الاناء وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الاناء وأن ينفخ فيه وجاء في النهي عن النفخ في الاناء عدة أحاديث وكذا النهي عن التنفس في الاناء لأنه ربما حصل له تغير من النفس إما لكون المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلا أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة أو لان النفس يصعد ببخار المعدة والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس (قوله باب الشرب بنفسين أو ثلاثة) كذا ترجم مع أن لفظ الحديث الذي أورده في الباب كان يتنفس فكأنه أراد أن يجمع بين حديث الباب والذي قبله لان ظاهرهما التعارض إذ الأول صريح في النهي عن التنفس في الاناء والثاني يثبت التنفس فحملهما على حالتين فحالة النهي على التنفس داخل الاناء وحالة الفعل على من تنفس خارجه فالأول على ظاهره من النهي والثاني تقديره كان يتنفس في حالة الشرب من الاناء قال ابن المنير أورد ابن بطال سؤال التعارض بين الحديثين وأجاب بالجمع بينهما فأطنب ولقد أغنى البخاري عن ذلك بمجرد لفظ الترجمة فجعل الاناء في الأول ظرفا للتنفس والنهي عنه لاستقذاره وقال في الثاني الشرب بنفسين فجعل النفس الشرب أي لا يقتصر على نفس واحد بل يفصل بين الشربين بنفسين أو ثلاثة خارج الاناء فعرف بذلك انتفاء التعارض وقال الإسماعيلي المعنى أنه كان يتنفس أي على الشراب لا فيه
(٨٠)