الإضرار بالبدن - نجد المرتاضين يعتقدون بأن كمال النفس يتناسب تناسبا طرديا مع حرمان البدن والأضرار به. فكلما كانت درجة الحرمان عن اللذائذ والطيبات عندهم أكثر، كانت درجة التكامل الروحي أكثر. ولهذا فأن السالكين في هذا الطريق يسعون بجد واجتهاد لحرمان الجسد من ميوله وأهوائه، ويعذبون أجسادهم بالنوم على المسامير أو التعليق من غصن شجرة وما شابه ذلك من أساليب التعذيب أملا في الحصول على السعادة المعنوية الكاملة.
3 - وطائفة ثالثة تعتقد بالمبدأ النفسي في سعادة الانسان أيضا، ولكنها في نفس الوقت لا تغمط الجسد حقه. هؤلاء يقولون: إن السعادة الحقيقية تكمن في التكامل الروحي ويجب الاعتناء به كثيرا، ولكن لا ينبغي التغافل عن إرضاء الميول الجنسية الخارجة عن حريم السعادة. ويؤكدون على نقطة مهمة هي أن كل ما كان مشتركا بين الانسان والحيوان من الصفات والميول والشهوات فهو خارج عن نطاق السعادة الانسانية، ولذلك يقول قائلهم: «إن ما كان منها عاما للانسان والبهائم فليست سعادة لنا» (1).
إن نقطة الاشتراك بين هذه العقائد الثلاث التي كان لها أنصار في الأزمنة الغابرة بين الفلاسفة والحكماء اليونانيين وغيرهم من الناس طوال القرون المتمادية، هي أن الجانب النفسي فقط هو الذي يراعى فيه ويفقد الجانب البدني الاعتناء والمراعاة اللازمة، فالجسد عندهم يفقد قيمته الحقيقية وليس له أي دخل في تحقيق السعادة البشرية. والميول والرغبات المادية تلاقي حرمانا وكبتا شديدين في نظرهم، حتى أنها لتقع تحت مطرقة الرياضة النفسية الثقيلة والتعذيب الشديد... ولا يخفى على من له مسكة من العقل أن هذا هو الشقاء والحرمان بعينه، وليس موصلا إلى السعادة - كما يظنون - أبدا.
السعادة في المدنية الحديثة:
وتعرف السعادة في العالم اليوم - وفي كنف المدنية الحديثة - بلون آخر، وتفسر بتفسير مضاد لتفسير الأمم السالفة والعصور القديمة مضادة تامة. فبينما