فإن المراد من * (ليقض علينا) * هو القضاء بالموت (1).
وجه الضعف ما عرفت من أن التأبيد على قسمين، غير محدد ومحدد بإطار خاص، ومن المعلوم أن قوله سبحانه: * (ولن يتمنونه) * ناظر إلى التأبيد في الإطار الذي اتخذه المتكلم ظرفا لكلامه وهو الحياة الدنيا، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنون الموت أبدا، لعلمهم بأن الله سبحانه بعد موتهم يقدمهم للحساب والجزاء ولأجل ذلك لا يتمنوه أبدا قط. وأما تمنيهم الموت بعد ورودهم العذاب الأليم فلم يكن داخلا في مفهوم الآية الأولى حتى يعد التمني مناقضا للتأبيد.
ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو: أنه ربما يقال: إن " لن " لا تدل على الدوام والاستمرار، بشهادة قوله: * (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) * إذ لو كانت * (لن) * تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة * (اليوم) * لأن اليوم محدد معين، وتأبيد النفي غير محدد ولا معين، ومثله قوله سبحانه على لسان ولد يعقوب: * (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) * حيث حدد بقاءه في الأرض بصدور الإذن من أبيه (2).
وجه الوهن: أن التأبيد في كلام النحاة ليس مساويا للمعدوم المطلق بل المقصود هو النفي البات الذي لا يشق، والنفي البات الذي لا يكسر ولا يشق على قسمين: تارة يكون الكلام غير محدد بظرف خاص ولا تدل عليه قرينة حالية ولا مقالية فعندئذ يسابق التأبيد المعدوم المطلق، وأخرى يكون الكلام محددا بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية فيكون التأبيد محددا بهذا الظرف أيضا، ومعنى قول مريم: * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * هو النفي البات في هذا الإطار ولا ينافي تكلمها بعد هذا اليوم.