استحالة وجود هذه المعطيات بدون العلة الأولى، وما لم تبرهن التجربة على ذلك لا يمكن ان تعتبر تلك المعطيات عطاء للقضية الفلسفية ولو بصورة غير مباشرة.
وهذا القول ليس الا تكرارا من جديد للمذهب التجريبي. وما دمنا قد عرفنا سابقا ان استنتاج المفاهيم العلمية العامة من المعطيات الحسية مدين لمعارف عقلية قبلية، فلا جناح على القضية الفلسفية إذا ارتبطت مع معطياتها الحسية بروابط عقلية وفي ضوء معارف قبلية.
والى هنا لم نجد في الوضعية شيئا جديدا غير معطيات المذهب التجريبي ومفاهيمه عن الميتافيزيقا الفلسفية. غير أن الصفة الثالثة تبدو لنا شيئا جديدا لأن الوضعية تقرر فيها أن القضية الفلسفية لا معنى لها اطلاقا ولا تعتبر قضية بل هي شبه قضية.
ويمكننا القول بأن هذا الاتهام هو أشد ضربة وجهت إلى الفلسفة من المدارس الفلسفية للمذهب التجريبي، فلنفحص محتواه باهتمام.
ولكي يتاح لنا ذلك يجب ان نعرف بالضبط ماذا تريد الوضعية بكلمة المعنى في قولنا ان القضية الفلسفية لا معنى لها وان أمكن تفسيرها في قواميس اللغة؟
ويجيب على ذلك الأستاذ آير - امام الوضعية المنطقية الحديثة في انكلترا - بأن كلمة معنى في رأي الوضعية تدل على المعنى الذي يمكن التثبت من صوابه أو خطئه في حدود الخبرة الحسية، ونظرا إلى ان القضية الفلسفية لا يمكن فيها ذلك فهي قضية بدون معنى.
وفي هذا الضوء تصبح العبارة القائلة (القضية الفلسفية لا معنى لها) معادلة تماما لقولنا (محتوى القضية الفلسفية لا يخضع للتجربة لأنه يتصل بما وراء الطبيعة) وبذلك تكون الوضعية قد قررت حقيقة لا شك فيها ولا جدال، وهي ان مواضيع الميتافيزيقا الفلسفية ليست تجريبية ولم تأت بشيء جديد الا تطوير كلمة المعنى ودمج التجربة فيها، وتجريد القضية الفلسفية عن