وثانيا: ان السير الفكري في رأي العقليين يتدرج من القضايا العامة إلى قضايا أخص منها، من الكليات إلى الجزئيات، وحتى في المجال التجريبي الذي يبدو لأول وهلة أن الذهن ينتقل فيه من موضوعات تجريبية جزئية إلى قواعد وقوانين عامة يكون الانتقال والسير فيه من العام إلى الخاص - كما سنوضح ذلك عند الرد على المذهب التجريبي.
ولا بد انك تتذكر ما ذكرنا مثالا لعملية التفكير وكيف انتقلنا فيه من معرفة عامة إلى معرفة خاصة، واكتسبنا العلم بأن (المادة حادثة) من العلم بأن (كل متغير حادث)، فقد بدأ الفكر بهذه القضية الكلية (كل متغير حادث) وانطلق منها إلى قضية أخص منها وهي (أن المادة حادثة). وأخيرا يجب أن ننبه على أن المذهب العقلي لا يتجاهل دور التجربة الجبار في العلوم والمعارف البشرية وما قدمته من خدمات ضخمة للانسانية وما كشفت عنه من اسرار الكون وغوامض الطبيعة، ولكنه يعتقد ان التجربة بمفردها لم تكن تستطيع أن تقوم بهذا الدور الجبار، لأنها تحتاج في استنتاج أية حقيقة علمية منها إلى تطبيق القوانين العقلية الضرورية - أي ان يتم ذلك الاستنتاج على ضوء المعارف الأولية، ولا يمكن أن تكون التجربة بذاتها المصدر الأساسي والمقياس الأول للمعرفة، فشأنها شأن الفحص الذي يجريه الطبيب على المريض، فان هذا الفحص هو الذي يتيح له أن يكشف عن حقيقة المرض وملابساته ولكن هذا الفحص لم يكن ليكشف عن هذا لولا ما يملكه الطبيب قبل ذلك من معلومات ومعارف، فلو لم تكن تلك المعلومات لديه لكان فحصه لغوا ومجردا عن كل فائدة، وهكذا التجربة البشرية بصورة عامة لا تشق الطريق إلى نتائج وحقائق الا على ضوء معلومات عقلية سابقة.
2 - المذهب التجريبي وهو المذهب القائل أن التجربة هي المصدر الأول لجميع المعارف البشرية، ويستند في ذلك إلى أن الانسان حين يكون مجردا عن التجارب بمختلف ألوانها لا يعرف أية حقيقة من الحقائق مهما كانت واضحة، ولذا يولد