يتعذر علينا نهائيا ان نتخطى دور الاحساس إلى دور النظرية والاستنتاج، أو أن نتأكد من صحة النظرية والاستنتاج بالرجوع إلى التطبيق وتكرار التجربة.
ونخلص من ذلك إلى ان التفسير الوحيد للخطوة الثانية من المعرفة - الحكم والاستنتاج - هو ما ارتكز عليه المذهب العقلي من القول بأن عدة من قوانين العالم العامة يعرفها الانسان معرفة مستقلة عن التجربة، كمبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلية، ومبدأ التناسب بين العلة والمعلول وما إلى ذلك من مبادئ عامة، وحين تقدم له التجربة العلمية ظواهر الطبيعة وتعكسها في احساسه يطبق عليها المبادئ العامة ويحدد مفهومه العلمي عن واقع الشيء وجوهره على ضوء تلك المبادئ، بمعنى انه يستكشف ما وراء الظواهر التجريبية ويتخطى إلى حقائق أعمق بالمقدار الذي يتطلبه تطبيق المبادئ العامة ويكشف عنه، وتضاف هذه الحقائق الأعمق إلى معلوماته السابقة ويكون بذلك أكثر ثروة حينما يحاول ان يحل لغزا جديدا للطبيعة في مجال تجريبي آخر، ولسنا نعني بهذا ان التطبيق والتجربة العلمية ليس لهما دور مهم في المعرفة البشرية للطبيعة وقوانينها. فان دورهما في ذلك لا شك فيه. وانما نريد ان نؤكد على استبعاد كل معرفة منفصلة عن التجربة ورفض المعارف العقلية بصورة عامة... يكون سببا لاستحالة تخطي المرحلة الأولى من الادراك، أي مرحلة الحس والتجربة.
* التجربة والكيان الفلسفي ولا يقف هذا التناقض المستقطب بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي عند حدود نظرية المعرفة فحسب، بل يمتد اثره الخطير إلى الكيان الفلسفي كله لان مصير الفلسفة بوصفها كيانا أصيلا مستقلا عن العلوم الطبيعية والتجريبية مرتبط إلى حد كبير بطريقة حل هذا التناقض بين المذهبين العقلي والتجريبي، فالبحث في المقياس العام للمعرفة البشرية والمبادئ الأولى لها هو الذي يقدم للفلسفة مبررات وجودها. أو يحكم عليها بالانسحاب والتخلي عن وظيفتها للعلوم الطبيعية.