التجربة نستطيع أن نطمئن إلى امكانات الفكر الانساني وقدرته على درس القضايا الفلسفية وبحثها في ضوء تلك المعارف القبلية على طريقة الاستقراء والهبوط من العام إلى الخاص.
واما الصفة الثانية: وهي أنا لا نستطيع أن نصف الظروف التي ان صحت كانت القضية صادقة والا فهي كاذبة، فلا تزال بحاجة إلى شيء من التوضيح. فما هي هذه الظروف الواقعية أو المعطيات الحسية التي يرتبط صدق القضية بها، وهل تعتبر الوضعية من شرط القضية أن يكون مدلولها بالذات معطى حسيا كما في قولنا (البرد يشتد في الشتاء والمطر يهطل في ذلك الفصل) أو تكتفي بأن يكون للقضية معطيات حسية ولو بصورة غير مباشرة، فان كانت الوضعية تلغي كل قضية ما لم يكن مدلولها معطى حسيا وظرفا واقعيا يخضع للتجربة فهي بذلك لا تسقط القضايا الفلسفية فحسب. بل تشجب أيضا أكثر القضايا العلمية التي لا تعبر عن معطى حسي وانما تعبر عن قانون مستنتج من المعطيات الحسية كقانون الجاذبية. فنحن نحس بسقوط القلم عن الطاولة إلى الأرض ولا نحس بجاذبية الأرض. فسقوط القلم معطى حسي مرتبط بالمضمون العلمي لقانون الجاذبية وليس للقانون عطاء حسي مباشر. وأما إذا اكتفت الوضعية بالمعطى الحسي غير المباشر فالقضايا الفلسفية لها معطيات حسية غير مباشرة كعدة من القضايا العلمية تماما أي توجد هناك معطيات حسية وظروف واقعية ترتبط بالقضية الفلسفية فان صحت كانت القضية صادقة والا فهي كاذبة. خذ إليك مثلا القضية الفلسفية القائلة بوجود علة أولى للعالم، فان محتوى هذه القضية وان لم يكن له عطاء حسي مباشر، غير ان الفيلسوف يمكنه ان يصل اليه عن طريق المعطيات الحسية التي لا يمكن تفسيرها عقليا الا عن طريق العلة الأولى، كما سنرى في بحوث مقبلة من هذا الكتاب.
وهناك شيء واحد يمكن أن تقوله الوضعية في هذا المجال، وهو أن استنتاج المضمون الفكري للقضية الفلسفية من المعطيات الحسية، لا يقوم على أساس تجريبي وانما يقوم على أسس عقلية، بمعنى أن المعارف العقلية هي التي تحتم تفسير المعطيات الحسية بافتراض علة أولى، لا أن التجربة تبرهن على