ولابد ان القارئ يتذكر دراستنا - في نظرية المعرفة (المسألة الأولى) - للمذهب العقلي، وكيف أوضحنا بالبرهان وجود معارف عقلية مستقلة، على شكل تبين ان إضافة معارف عقلية إلى التجربة امر ضروري، لا في مسألتنا الفلسفية فحسب، بل في جميع المسائل العلمية. فما من نظرية علمية ترتكز على أساس تجريبي بحت، وانما تقوم على أساس التجربة، وعلى ضوء المعلومات العقلية المستقلة. فلا تختلف قضيتنا الفلسفية التي تتناول البحث عما وراء عالم الطبيعة، عن كل قضية علمية تبحث عن أحد قوانين الطبيعة، أو تكشف شيئا من قواها وأسرارها. فالتجربة في جميع ذلك نقطة الانطلاق، وهي مع ذلك بحاجة إلى تفسير عقلي، لتستنتج منها الحقيقة الفلسفية أو العلمية.
ونخرج من هذه النقاط بالنتائج التالية:
أولا: ان المدرسة المادية تفترق عن المدرسة الإلهية في ناحية سلبية، أي الانكار لما هو خارج الحقل التجريبي.
ثانيا: ان المادية مسؤولة عن الاستدلال على النفي، كما يجب على الإلهية الاستدلال على الاثبات.
ثالثا: ان التجربة لا يمكن ان تعتبر برهانا على النفي، لان عدم وجدان السبب الاعلى في ميدان التجربة لا يبرهن على عدم وجوده في مجال أعلى، لا تمتد اليه يد التجربة المباشرة.
رابعا: ان الأسلوب الذي تتخذه المدرسة الإلهية للاستدلال على مفهومها الإلهي هو نفس الأسلوب الذي نثبت به علميا جميع الحقائق والقوانين العلمية.
* الاتجاه الديالكتيكي للمفهوم المادي قلنا ان للمادية اتجاهين أحدهما: اتجاه الآلية الميكانيكية، والآخر، اتجاه المادية الديالكتيكية.