وقد واجه الكيان الفلسفي هذه المحنة أو هذا الامتحان منذ نشأت الطريقة التجريبية وغزت الحقول العلمية بكفاءة ونشاط. واليكم قصة ذلك:
كانت الفلسفة قبل أن يسود الاتجاه التجريبي وفي مطلع فجرها تستوعب تقريبا كل المعارف البشرية المنظمة بشكل عام. فالرياضيات والطبيعيات تطرح على الصعيد الفلسفي كمسائل الميتافيزيقا تماما، وتتحمل الفلسفة بمعناها العام الشامل مسؤولية الكشف عن الحقائق العامة في كل مجالات الكون والوجود، وكانت أداة المعرفة التي تستخدمها الفلسفة في تلك الحقول جميعا هي القياس - الطريقة العقلية في التفكير أو السير الفكري من القضايا العامة إلى قضايا أخص منها.
وظلت الفلسفة تسيطر على الموقف الفكري للانسانية حتى بدأت التجربة تشق طريقها وتقوم بدورها في حقول كثيرة وهي تتدرج في المعرفة من الجزئيات إلى الكليات، من موضوعات التجربة إلى قوانين أعم وأشمل، فكان على الفلسفة ان تنكمش وتقتصر على مجالها الأصيل وتفسح المجال لمزاحمها - العلم - لينشط في سائر المجالات الأخرى وبذلك انفصلت العلوم عن الفلسفة وتحددت لكل منهما أداته الخاصة ومجاله الخاص. فالفلسفة تصطنع القياس أداة عقلية للتفكير، والعلم يستخدم الطريقة التجريبية ويتدرج من الجزئيات إلى قوانين أعلى، كما ان العلم - كل علم - يتناول شعبة من الوجود ونوعا خاصا له يمكن إخضاعه للتجربة فيبحث عن ظواهره وقوانينه في ضوء التجارب التي يمارسها. وأما الفلسفة فتتناول الوجود بصورة عامة دون تحديد أو تقييد وتبحث عن ظواهره وأحكامه التي لا تخضع للتجربة المباشرة.
فبينما يبحث العالم الطبيعي عن قانون تمدد الفلزات بالحرارة، والعالم الرياضي عن النسبة الرياضية بين قطر الدائرة ومحيطها، يدرس الفيلسوف ما إذا كان للوجود مبدأ أول انبثق مه الكون كله، وما هو جوهر العلاقة بين العلة والمعلول، وهل يمكن ان يكون لكل سبب سبب إلى غير نهاية؟ وهل المحتوى الانساني مادي محض أو مزاج من المادية والروحية؟
واضح من أول نظرة ان محتوى الأسئلة التي يثيرها العالم يمكن إخضاعها