نفترض المسألة الأساسية - مسألة وجود الواقع الموضوعي للعالم - فوق الريب والشك؟
وهكذا انبثقت النزعة المثالية أو اللاأدرية لا باعتبار برهنة العلم على صحتها وصوابها، بل باعتبار تزعزع عقيدة العلماء بالعلم وزوال ايمانهم بمسلماته القاطعة، ولكن هذا العامل لا يعدو ان يكون باعثا نفسيا أو أزمة نفسية أوحت بالتمايل نحو المثالية، وتزول هذه الأزمة النفسية بأدنى ملاحظة حين تدرس المسألة دراسة فلسفية، ذلك أن الاعتقاد بوجود الواقع الموضوعي للعالم ليس ناشئا من براهين التجربة والعلم، فقد عرفنا سابقا ان التجارب لا يمكن ان تبعث على هذا الاعتقاد وتخرج الانسان من التصورية إلى الموضوعية، بل هو اعتقاد فطري ضروري في الطبيعة الانسانية ولأجل ذلك فهو عام يشترك فيه الجميع حتى المثاليون المتمردون عليه بلسانهم، فإنهم أيضا يعتقدون هذا الاعتقاد تماما كما تدل عليه حياتهم العملية. وأما المسلمات التي ظهر خطأها فهي تدور كلها حول بنية العالم الموضوعي وتحديد واقعه وعناصره الأساسية، ومن الواضح أن مسلمات كهذه إنما تثبت بالتجربة العلمية، فانهيارها ووضوح خطأها - بسبب نقصان التجارب التي ارتكزت عليها وعدم دقتها، أو عدم صحة الاستنتاج العقلي للنظرية من التجربة - لا يعني بحال من الأحوال أن يجوز الخطأ على المسلمات العقلية الضرورية.
ج - المثالية الفيزيولوجية:
وهذا لون آخر من المثالية يبدو عند بعض علماء الفيزيولوجيا. ويعتمد في زعمهم على الحقائق الفيزيولوجية التي يكشفها العلم. وينطلق هذا الاتجاه المثالي من نقطة لا نقاش فيها. وهي ان الشكل الذاتي للاحساس البشري يتوقف تحديده على تركيب حواسنا وعلى الجهاز العضوي بصورة عامة. فليست طبيعة الاحساس الآتي من العالم الخارجي هي التي تحدد بمفردها شكل الشيء في إحساسنا، بل هو رهين بطبيعة الجهاز العصبي قبل كل شيء. وقد زعموا بناء على ذلك ان الحاسة لا تعطينا أنباء عن العالم الخارجي، وانما هي تنبئنا عن جهازنا العضوي الخاص، وليس معنى ذلك ان الاحساس لا صلة