الزاهد في الدنيا. قال: (الذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عقابه.) (1) أقول: إن الله تعالى خلق الانسان أجوف، بحيث يحتاج إلى الاكل. ومن المعلوم أنه كما لم يخلق أصل العالم عبثا، فكذلك خصوصياته فإنها لم تخلق عبثا. ويتأكد الامر في خلق الانسان الذي هو أشرف المخلوقات، فخلق الانسان أجوف بحيث يتناول الطعام والشراب ويسد بهما جوعته ويديم على حياته، إنما يكون للتمكن من الوصول إلى الغرض والهدف من خلقته، التي هي العبودية والمعرفة، وهكذا الامر في حاجة الانسان إلى الملابس والمساكن والمناكح وغيرها مما يقتضيه طبع الانسان، فلو كان الاكل مثلا مانعا من وصول الانسان إلى مقصده وهدفه، لصار قبيحا بنظر العقل، ومحرما أو مكروها بنظر الشرع، مع أنه تعالى لم يردع عنه، بل أمر به بشرائطه وحدوده.
فقد ظهر مما مر أنه ليس المراد من هذه الفقرة ونظائرها وكذلك الآيات والأحاديث في الباب، حث الانسان وتحريضه على ترك الاكل مطلقا، ونهيه عن تناول الطعام والشراب، بل لسان كل واحدة منها يشير إلى جهة من الجهات الراجعة إلى أمر الاكل، كأن يكون الاكل من الحلال الطيب، ولزوم اجتناب الآكل من السرف، ووجوب الشكر لمنعم الطعام، وتحديد الاكل كما، وغيرها من الأمور التي تلائم طبع الانسان وفطرته وتنطبق على ما تقتضيه خلقته.
ونرجو أن يكون هذا البيان الناقص منا هاديا لأولي الألباب، يفتح السالك به طريقه إلى رب الأرباب، ويهديه إلى الحق الصواب، ويسهل به بعض المعضلات الصعاب، وينحل به بعض رموز السنة والكتاب، بعون الله الملك الوهاب.
بل نرجو أن يكون بياننا هذا طريقا لجمع شتات ما ورد في مواضع من هذا الحديث من الحث على الجوع والصوم، وإن كان الامر أوضح من أن يخفى على أهل التحقيق بعد الجمع بين الآيات والروايات الواردة في الباب.