وبقرابتك منه، إلا ما أعفيتني من الكلام في هذا. قال: قد أعفاك أمير المؤمنين. ثم التفت إلى ابن سمعان فقال له: أيها القاضي ناشدتك الله تعالى، أي الرجال أنا عندك؟ فقال ابن سمعان: أنت والله خير الرجال يا أمير المؤمنين، تحج بيت الله الحرام، وتجاهد العدو، وتؤمن السبل، ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي، وبك قوام الدين، فأنت خير الرجال، وأعدل الأئمة. ثم التفت إلى ابن أبي ذؤيب فقال له: ناشدتك الله: أي الرجال أنا عندك؟ قال: أنت والله عندي شر الرجال، استأثرت بمال الله ورسوله، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين، وأهلكت الضعيف، وأتعبت القوي، وأمسكت أموالهم، فما حجتك غدا بين يدي الله؟ فقال له أبو جعفر: ويحك: ما تقول؟ أتعقل؟ أنظر ما أمامك.
قال: نعم، قد رأيت أسيافا، وإنما هو الموت، ولا بد منه، عاجله خير من آجله. ثم خرجا وجلست. قال: إني لأجد رائحة الحنوط عليك. قلت: أجل: لما نمى إليك عني ما نمى، وجاءني رسولك في الليل، ظننته القتل، فاغتسلت وتطيبت، ولبست ثياب كفني. فقال أبو جعفر: سبحان الله ما كنت لأثلم (1) الإسلام، وأسعى في نقضه، أو ما تراني أسعى في أود (2) الإسلام، وإعزاز الدين، عائذا بالله مما قلت يا أبا عبد الله، انصرف إلى مصرك راشدا مهديا، وإن أحببت ما عندنا، فنحن ممن لا يؤثر عليك أحدا، ولا يعدل بك مخلوقا. فقلت: إن يجبرنى أمير المؤمنين على ذلك فسمعا وطاعة: وإن يخيرني أمير المؤمنين اخترت العافية. فقال:
ما كنت لأجبرك، ولا أكرهك، انقلب معافى مكلوءا (3). قال: فبت ليلتي، فلما أصبحنا أمر أبو جعفر بصرر دنانير، في كل صرة خمسة آلاف دينار، ثم دعا برجل من شرطته.
فقال له: تقبض هذا المال، وتدفع لكل رجل منهم صرة، أما مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله، وإن ردها لا جناح عليه فيما فعل، وإن أخذها ابن أبي ذؤيب فأتني برأسه، وإن ردها عليك فبسبيله، لا جناح عليه، وإن يكن ابن سمعان ردها فأتني برأسه، وإن أخذها فهي عافيته.
فنهض بها إلى القوم، فأما ابن سمعان فأخذها فسلم، وأما ابن أبي ذؤيب فردها فسلم، وأما أنا فكنت والله محتاجا إليها فأخذتها. ثم رحل أبو جعفر متوجها إلى العراق.