القاضي مع الرشيد يومئذ، فسأله أن يجمع بينه وبين مالك، ليكلمه في الفقه. فقال الرشيد لمالك: كلمه يا أبا عبد الله، فأنف من ذلك مالك، وتنزه عنه، وقال لهارون: ها هنا من فتيان قريش من تلامذتنا، من يبلغ حاجة أمير المؤمنين، ويخصمه (1) فيما يتكلم به، ويذهب إليه، فسر ذلك الرشيد حين أضاف ذلك إلى قريش. فقال: من هو؟ فقال: المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، فبعث إليه الرشيد فجمعه بأبي يوسف فقال: كلمني بما بدا لك أجاوبك.
فقال أبو يوسف القاضي: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء، يعني مالكا وأصحابه، يقضون بغير ما في كتاب الله، يقول الله عز وجل " وأشهدوا ذوي عدل منكم ": وقال: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " وهؤلاء يقضون باليمين مع الشاهد، ولا نسمع أن الله تعالى ذكر إلا شاهدين وأربعة شهداء، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى به، وإنما يدور هذا الحديث الذي روى فيه سهيل عن أبي صالح عن أبيه، ثم نسبه سهيل، فكان يحدث ويقول: حدثني ربيعة عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد " فلما نسبه سهيل بطل الخبر، وأثبت أصله، فلا معنى لذكره. قال المغيرة: قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى به علي بالكوفة. فقال أبو يوسف: أنا أكلمك بالقرآن، وأنت تكلمني بأفعال الناس، أتراك تعرفني بهذا، وبما قضى به علي وغيره؟ فقال المغيرة.
فأنت كافر بنبي قضى باليمين مع الشاهد، أو مؤمن به؟ فسكت أبو يوسف فحجه (2) المغيرة.
فسر بذلك الرشيد، وأمر للمغيرة بألف دينار. ثم أرسل الرشيد إلى مالك فقال: ما تقول في هذا المنبر، فإني أريد أن أنزع ما زاد فيه معاوية بن أبي سفيان وأرده إلى الثلاث درجات، التي كانت بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنما هو من عود ضعيف قد تخرمته المسامير، فإن نقضته تفكك، وذهب أكثره، ومع هذا إنه يا أمير المؤمنين لو أعدته إلى ثلاث درجات لم آمن عليه أن ينتقل عن المدينة، يأتي بعدك أحد فيقول أو يقال له: ينبغي لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون معك حيث كنت، فإنما المنبر للخليفة، فينتقل كما انتقل من المدينة كل ما كان بها من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أعلم أنه ترك له عليه الصلاة والسلام بها نعل ولا شعر ولا فراش ولا عصا ولا قدح ولا شئ مما كان له ها هنا من آثاره إلا وقد انتقل: فأطاعه الرشيد، وانتهى عن ذلك برأي