لا آكل من ذبائحكم هذه (1).
وخرج البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس (2)، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن
(1) (المطالب العالية): 4 / 95، وفيه: وأتى زيد بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، دعواه لطعامهما، فقال زيد بن عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نأكل مما ذبح على النصب) قال الهيثمي: رواه أحمد وفيه المسعودي وقد اختلط، وبقيه رجاله ثقات.
(2) التحمس: التشدد، وكانوا قد ذهبوا في ذلك مذهب التزهد والتأله، فكانت نساؤهم لا ينسجن الشعر ولا الوبر، وكانوا لا يسلئون السمن، وسلأ السمن: أن يطبخ الزبد حتى يصير سمنا، ومن القبائل التي آمنت مع قريش بالحمس: كنانة، وخزاعة. (الروض الأنف): 1 / 299 - 230.
قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش - لا أدري أقبل الفيل أم بعده - ابتدعت رأي الحمس رأيا رأوه فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرمة، وولاة البيت، وقطان مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويرون لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها، كما نعظهما نحن الحمس، والحمس: أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة النحوي: أن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن دخلوا معهم في ذلك.
قال ابن إسحاق: ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم، حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط، ولا يسلئوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا - إن استظلوا - إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما، ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس. فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة.
ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها، فلم ينتفع بها هو ولا غيره، وكانت العرب تسمي تلك الثياب: اللقى، فحملوا على ذلك العرب فدانت به، ووقفوا على عرفات وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عراة، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعا مفرجا عليها، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب، وهي كذلك تطوف بالبيت:
اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله ويذكر أن هذه المرأة هي: ضباعة بنت عامر بن صعصعة، ثم من بني سلمة بن قشير.
وذكر محمد بن حبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها، فذكرت له عنها كبرة، فتركها، فقيل إنها ماتت كمدا وحزنا على ذلك. قال ابن حبيب: إن كان صح هذا، فما أخرها عن تكون أما للمؤمنين، وزوجا لرسول رب العالمين إلا قولها (اليوم يبدو بعضه أو كله) تكرمة من الله لنبيه، وعلما منه بغيرته، والله أغير منه.
ومن اللقى: حديث فاختة أم حكيم بن حزام، وكانت دخلت الكعبة، وهي حامل متم بحكيم بن حزام، فأجاءها المخاض، فلم تستطع الخروج من الكعبة، فوضعته فيها، فلفت في الأنطاع هي وجنينها، وطرح مثبرها [المثبر: مسقط الولد] وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقى لا تقرب.
ومما ذكر من تعريهم في الطواف أن رجال وامرأة طافا كذلك، فانضم الرجل إلى المرأة تلذذا واستمتاعا، فلصق عضده بعضدها، ففزعا عند ذلك، وخرجا من المسجد، وهما ملتصقان، ولم يقدر أحد على فك عضده من عضدها، حتى قال لهما قائل: توبا مما كان في ضميركما، وأخلصا لله التوبة، ففعلا، فانحل أحدهما من الآخر.
(سيرة ابن هشام): 2 / 21 - 26.