وأما حجة ابن أبي هريرة أن العادة جارية بأن الحاضر مجالس الحكام يحضر على بصيرة من خلافهم له فيما ذهب إليه من غير إنكار، لما في الانكار من الافتيات عليهم، ولأن حكم الحاكم يقطع الخلاف، ويسقط الاعتراض، بخلاف قول المفتي فإن فتواه غير لازمة ولا مانعة من الاجتهاد. وفي هاتين الحجتين نظر:
أما الأولى فما ذكر فيها من الاحتمالات، وإن كانت منقدحة عقلا، فهي خلاف الظاهر من أحوال أرباب الدين وأهل الحل والعقد.
أما احتمال عدم الاجتهاد في الواقعة فبعيد من الخلق الكثير، والجم الغفير، لما فيه من إهمال حكم الله تعالى فيما حدث، مع وجوبه عليهم وإلزامهم به، وامتناع تقليدهم لغيرهم، مع كونهم من المجتهدين، فإنه معصية. والظاهر عدم ارتكابها من المتدين المسلم.
وأما احتمال عدم تأدية الاجتهاد إلى شئ من الاحكام، فبعيد أيضا، لان الظاهر أنه ما من حكم إلا ولله تعالى عليه دلائل وأمارات تدل عليه. والظاهر ممن له أهلية الاجتهاد، إنما هو الاطلاع عليها، والظفر بها.
وأما احتمال تأخير الانكار للتروي والتفكر، وإن كان جائزا، غير أن العادة تحيل ذلك في حق الجميع، ولا سيما إذا مضت عليهم أزمنة كثيرة حتى انقرض العمر من غير نكير.
وأما احتمال السكوت عنه لكونه مجتهدا، فذلك مما لا يمنع من مباحثته ومناظرته وطلب الكشف عن مأخذه، لا بطريق كالعادة الجارية من زمن الصحابة إلى زمننا هذا بمناظرة المجتهدين، وأئمة الدين فيما بينهم، لتحقيق الحق، وإبطال الباطل كمناظرتهم في مسائل الجد والاخوة وقوله: أنت علي حرام والعول، ودية الجنين، ونحو ذلك من المسائل.
وأما احتمال التقية فبعيد أيضا، وذلك لان التقية إنما يكون فيما يحتمل المخافة ظاهرا، وليس كذلك لوجهين.
الأول: أن مباحث المجتهدين غير مستلزمة لذلك، وذلك لان الغالب من حال المجتهد، وهو من سادات أرباب الدين أن مباحثته فيما ذهب إليه لا توجب خيفة في نفسه، ولا حقدا في صدره، تخاف عاقبته، إذ هو خلاف مقتضى الدين.