والإجماع منعقد على صحة التكليف بما علم الله أنه لا يقع وإن ظن قوم أنه ممتنع لغيره.
وقد يتوهم من ذلك دعواه الاجماع على جواز التكليف بالممتنع الغيري، وهو وهم فاحش. إنما يعني اتفاق أهل الشرائع والأديان على صحة التكليف بالأفعال وإن وقع الكلام في كونه تكليفا بالمحال، فمن قال بالجبر يلزمه القول بجوازه بل وقوعه أيضا.
وأما الممتنع الذاتي فالقول بجواز الأمر به لا يستلزم القول بوقوعه.
وقد عرفت إنكاره تصريح الأشعري به.
وذكر الآمدي اختلاف قوله في ذلك، وأن ميله في أكثر أقواله إلى الجواز مع تمثيله لذلك بالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإيجاد القديم وإعدامه قال:
وهو لازم على أصله في وجوب مقارنة القدرة للمقدور وعدم تأثيرها فيه. ثم قال: وهذا مذهب أكثر أصحابه وبعض معتزلة بغداد - حيث قالوا بجواز تكليف العبد بفعل في وقت علم الله أنه يكون ممنوعا عنه - والكرامية حيث زعموا أن الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان مع التكليف به، غير أن من قال بجواز ذلك من أصحابه اختلفوا في وقوعه نفيا وإثباتا، ووافقه على القول بالنفي بعض الأصحاب وهو مذهب البصريين من المعتزلة وبعض البغداديين، ثم اختار امتناع التكليف بالمستحيل لذاته وجوازه في المستحيل باعتبار غيره، ونسب إلى الغزالي ميله إليه.
وأنت خبير بأن الشبهات العقلية التي ذكروها في تجويز التكليف بالمحال إنما يجري في الممتنع الغيري، إذ هي التي ذكروها للقول بالجبر وخلق الأفعال وعدم تأثير قدرة العبد في مقدوره ووجوب مقارنتها له ونحو ذلك، فكأنهم يقيسون الممتنع الذاتي على ذلك بدعوى أن الامتناع إذا لم يمنع من التكليف تساوى فيه الذاتي والغيري.
وهذه المقالات من الضلالات البالغة إلى أقصى الغايات.